السبت، 29 أبريل 2017

كتاب نجمي - بن اوكري.


من رواية " كتاب نجمي" للروائي النيجيري بن اوكري




الفصل الثاني

  في ذلك اليوم،  عند النهر، عندما سمعت العذراء الأسئلة الغامضة في هبوب الريح، تغيرت حياتها إلى الأبد. قبل ذلك اليوم كانت تعيش فى  اعماق  حلم . كان العالم غريبا عنها. وجميع أموره غريبة أيضا. كانت كما لو أنها جاءت من كوكب آخر،  من عالم آخر، ووجدت نفسها وقد تقطعت بها السبل على كوكب غريب حيث ضاعت تماما. كان حسن حظها الوحيد على ما يبدو، يكمن فى  أنها ولدت في قبيلة من الفنانين، في عائلة  من صاغة الذهب ، وعمال البرونز الحالمين.
كانت قبيلتها  التى هي قبيلة من البدو الرحل ذات  مكان، أرض تمثل مركزا مخبئا. كانوا يعيشون في الغابات، بعيدا عن المدن والبلدات. وكانت حياتهم مكرسة كليا لسماع الايحاءات وخلق التماثيل في السر واظهارهم ليلا في وسط القرية، كدليل مرشد  وللتحذير من الأحداث والمشاكل والاضطرابات التى تحدث في البلد، في العالم، في القبيلة، في الأسرة، أو داخل روح أي رجل أو امرأة. ولذا كان من المألوف بالنسبة للقبيلة أن تستيقظ صباح أحد الأيام وتجد تمثالا خشبيا لرجل مقيدا بسلاسل إلى رجل آخر، وأن تتساءل عما  قد يعنيه ذلك.
     أثارت هذه الصور مناقشات كبيرة وخضعت للتفسيرات والتأويلات الخاطئة. كانت مثل أحلام معروضة على الملأ. وأحيانا  ماتمر سنوات عديدة   قبل  أن يتسنى لصورة شهيرة معروضة بشكل غامض بالقرب من ضريح  أن تكشف عن غرضها الحقيقي والمعنى الاجتماعي الذي تلمح له ، أو الى قيمتها الروحية. ثم وفجأة تصبح  الصورة المألوفة غريبة كما لو انها بدأت في الكلام، لتكشف ما كانت تحذر القبيلة منه  أوان تكشف عن  أحداث مستقبلية تنتظر التكشف، الأحداث الخفية التى يسلط عليها الضوء تدريجيا ، أوالأحداث الماضية التي تأخذ على محمل  جديد.
تحتاج هذه الصور الى  مترجمين سادة فى فنهم ، قراء صور ، مفككي أكواد وشفرات  للمساعدة في فك شفرتهم،وإلا فان ذلك الغموض المستمر سيربك ويحير القبيلة. في كثير من الأحيان كانوا  يرسلون فى طلب  الحكماء من بعيد ليأتوا ويقدموا المساعدة في فك وفهم هذه الصور المحيرة التي تلازم  مقاماتهم وأضرحتهم ، هذه الاشكال العصية على الفهم . هناك عدد قليل من الأشياء  التي لا تطاق كما لا يمكن ان تطاق  صورة أو شكلا غير مفسر.
كم من المجاعات والأوبئة والحروب والزلازل والاختطاف والاعتداء، تم تخفيف اثره  لأن واحدا من الفنانين غير المنظورين  في القبيلة شعر  بالضغط الهائل الناجم عن رؤيا، أوكشف وصنع صورة حررت تلك الرؤيا، وعرضتها ، وقدمها معروضة كشرح صحيح لما سيكون فيه  الصالح الأكبر للبلد؟ كان هناك كثيرون. كثيرون جدا، في الواقع،  حتى أن القبيلة أصبحت أسطورية. وفي أسطورتها  اكتسبت حريتها في العيش كما تحب وتفضل ، احست ان تلك الحرية تجعلها  أقدر على خدمة الرؤي التى تراودها ,واكثر اخلاصا لربة الوحي الفني.
    كانت قبيلة فريدة من نوعها، اعتبرت لدى الكثيرين مجرد شائعة، أو خرافة . وهو ما يعني أن الكثير من الناس لا يعتقدون أنها قد  وجدت حقا. هذا الامر كان  يناسب  القبيلة كثيرا. كان يكسيها معطف الاخفاء الطويل ؛ و يحررها من القيود الخارجية؛ ويجعل أفرادها أجود المبدعين والمستمعين، والصناع، والأدلة، الكاشفين والمتعاطين   للأسرار، ورسلا لآلهة غير معروفة، ومسافرين بين العوالم، حاملي الصور والمبدعين الأعلى للجمال في الأرض.
    كانوا أحرارا. وليس كل إبداعهم متعلق  بالرجم بالغيب، الكشف، الطوالع، التحذيرات. بل كذلك  أنشأوا صور الرثاء، صور الابتهاج، وصنعوا سبائك البرونز للاحتفال بالحياة في كل مرحلة  ، الحصاد الجيد، الصياد الشاب،الرياضي الشهير، العشاق، الأم والطفل. وأنشأوا الأعمال التي كانت جميلة في حد ذاتها، والأعمال الي لا معنى لها ولكنها تمنح السرور والفرح والصحة لجميع الذين يحدقون فيها. الأعمال التي كانت مثل أشعة الشمس، مثل قوس قزح، مثل الأضواء الوامضة على أسطح الأنهار، مثل العيون اللامعة لطفل سعيد. تلك الأعمال حُلم بها ، وانجزت في سرية، لتظهر في صباح أحد الأيام في أبرز الأماكن وأكثرها مفاجئة في القرية.
     في بعض الأحيان يغرس الفنانين   أعمالهم خارج منزل  زعيم، أو بجانب بئر يؤمه الناس، أو ينصبونها مخبأة في الغابة كي يعثر عليها  الصيادين أو المسافرين أو الأطفال الذين يلعبون. في بعض الأحيان يكون من شأن الفنانين   أن يضعوا الأعمال في وسط الطريق المؤدي للخروج من القرية، أو يجعلونها  تتدلى من شجرة، أو  يرتبون  لقيام مجموعة من الأطفال  بحملها صعودا وهبوطا في الساحة وهم يرددون مقطعا من  أغنية .
     كان الفنانون يبقون مجهولين دائما .   لم يكن أحد يعرف من الذي خلق  هذا العمل الفني أو ذاك . وبهذه الطريقة كان الحالم حرا تماما  للكشف على أعمق المخاوف والآمال والرؤى لديه .  تتم مناقشة أعمالهم في كثير من الأحيان؛ بالنظر الى  القوة، والغموض والجمال أو الأهمية،  وكانت تعامل على أنها قوانين غير معلنة إلى أن تفسر، ومن ثم يتم تطبيقها.
    لم يتم العثور على بعض الأعمال الفنية لسنوات عديدة، واكتشفت في الأماكن التي تختبئ فيها  بعد ان تركت هناك لسنوات، وحتى عقود،. و كلما وجدت  كانت لحظة  اكتشافها والعثور عليها تمثل واحدة من المعاني المحتملة  لها والأكثر لزوما  للبلد. لم يتم حتى الآن العثور على العديد من الأعمال، والأشياء التي تحذر منها، أو تلفت الانتباه إليها، لا تزال ماثلة  للنوم، والغيب. في بعض الأحيان يتم اكتشاف الأعمال في الوقت المضبوط والصحيح  عند ما  يكون ما تلفت الانتباه إليه يوشك أن يسبب دمارا للناس. وبالتالي فإن العمل يساعدهم على معرفة ما لم يكن يرونه. وكان  العثورعلى تلك  الأعمال ذو أهمية كبيرة للقبيلة، بقدر صنعها، أو تفسيرها.

     كانت هذه القبيلة الفريدة التي جاءت منها العذراء . كان والدها رجلا غامضا. يبدو كمن لا  يفعل شيئا. لم يكن أحد يعرف ما يفعله في المجتمع، ومع ذلك يحظى بالحب والاحترام  بشكل كبير. يقول البعض انه كان ساحرا كبيرا، ويمكنه أن يخلق الذهب  بمجرد التفكير  فى احضاره إلى حيز الوجود، وبمقدوره العيش لفترة  طويلة بوضع حجر تحت وسادته. ويقول البعض انه يتداول الكائنات الروحية. كما يدعي البعض  انه كان المستشار المفضل السري لملك غير معروف. وكان في غالب الوقت  يبقى بعيدا عن المنزل لفترات طويلة. لم  يعرف أحد أين يذهب. ومع ذلك   كان يعلم بكل ما كان يدور في القبيلة، وعلى الأرض. وكان رجلا  قليل الكلام  ونادرا ما يضحك، له عينا  نسر مقنع. كان يُعتقد أنه  واحد من أعظم الفنانين في القبيلة، وولي أمر  أسرارها العريقة.
وكانت والدة العذراء  أيضا غريبة  في القبيلة. وغالبا ما تطيل التحديق في ابنتها، وتقول:
"انها ليست من هنا. وانها لن تبقى طويلا. عندما تجد ما  تبحث عن فانها فستعود.  وعلينا أن نأخر اكتشافها ".
تأخير الاكتشاف:  كان موضوع حياتها


الفصل الثالث


     قبل أن تسمع الأسئلة بالنهر في ذلك اليوم المشؤوم،  كانت خجلة، ومحرجة دوما ، مجرد عاملة بسيطة مجدة . لا أحد يلاحظها  كثيرا. فهي لم تكن  جميلة. لم يكن أي من الرجال  قد اختارها للحب أو الزواج. لم  تلهب او تثير أية اعضاء . وكانت نوعا من العبء على والدتها،  نوعا من  مصدر قلق. تتحدث قليلا، وتهرب عندما يحدق أي شخص في وجهها. وتقول إنها لا تحتمل قضاء وقت طويل بصحبة الآخرين، كانت تبدو وحيدة وضائعة دائما . كانت كثيرا ما تجوب الغابة لوحدها ، أو تختار بقعة معزولة للجلوس قرب النهر، تحّدق في اللاشيء، تتوق لسعادة لايمكن سوى للموت أو لحب كبير  ان يحققها. ومن مخبأها في تلك البقعة المهجورة، كانت دائما تغنى أغاني حزينة لنفسها، شاردة الذهن، بصوت منخفض.
في بعض الأحيان، وهى لوحدها، ينتابها مزاج رائع فتطلق ضحكة مكتومة ثم تنطلق بالقهقهة، وتجري  مجربة الإنزلاق على طول الشاطئ، وأداء حركات رياضية  مع بعض الشقلبات والحركات البهلوانية ، وتلعب مقلدة سرطان البحر، أوأحد الطيور. وقد تشرع فى التحدث مع الريح، إلى الأرواح، او الى أصدقاء وهميين وخالدين ، وتفضي بأشواقها المجهولة العميقة الى الهواء، يغالبها فرح غامر يجعلها تكاد ترغب في القفزخارج جلدها. في أوقات مثل هذه كانت تؤلف  أغان وتلحن موسيقها الملائمة لها. أو أنها قد تهرع الى العودة إلى ورشة والدها وتبدأ في نحت الخشب، دون علم أحد.
  في واحدة من هذه الحالات المزاجية، وتحت إلهام تلك السعادة السوداء القوية، سعادة عميقة بحيث أنها اذا لم تجد شيئا  لتفعله فانها قد تدفع بها الى  الجنون أو تجعلها تنهي حياتها، تحت وطأة تلك السعادة المأساوية، بدأت إنشاء منحوتة جديدة  من الخشب. هذا المنحوتة ستحيلها إلى قالب. وبمرور الأيام والأسابيع التى كانت تمضي العمل فيها بسرية تامة مع والدها،  تتعلم فن صب البرونز، وصوغ الذهب، صنعت من ذلك القالب سبيكة من البرونز لوجه نقي جدا، غامض جدا، هادئ جدا لدرجة انها نفسها فوجئت بالكم  الهائل من الجمال الذي تكون على يديها. كان  تمثالا نصفيا لملكة. مشعة، هادئة، بغطاء رأس ملكي منقوش   ومن رأسها  تطل عيون  تتأمل بحسية، كان وجها  لم يسبق لها ان رات له مثيلا من قبل، لافى الواقع أو حتي في الأحلام،   كأنه وجه سعادة شبابها المتفجر. عندما انتهت من صب البرونز، قامت باستخدام سلطة والدها الغائب مع رجال المسبك، واخفت المنحوتة بين اشيائها، حتى تجد طريقة  ما تستخدمها فيها.
كل صباح، عند الفجر،   تجلبه وتنظر إليه. في الليل، وقبل أن تغرق فى النوم ، تهدهده فيشيع السرور في قلبها. في ذلك الوقت بدا تصرفها غريبا  حتى على والدتها، الذي كانت تعدها عبئا كبيرا عليها.

"ما الذي افعله بك؟ تقول والدتها. "لا يوجد رجل يرضى بالزواج منك. ليس لديك الجمال. وانت لا تتكلمين. أنت غريبة، كما لوانك أتيت من أرض الأرواح. أنت لست محظوظة. ولا تعرفين الفن الذي تتقنه النساء، فن تحلية الحياة. أنت غير ودودة للغاية. عيناك على الكثير من الاشياء . عيناك كبيرة جدا ومخيفة. سوف تشيخين وحيدة بدون حب، بسب طريقتك هذه . ماذا أفعل معك؟
'لا شيء، ماما، " تقول العذراء.
ثم تخرج، للقيام ببعض الأعمال المنزلية ، أو تذهب إلى البئر لجلب الماء، أو الى النهر لغسل الملابس، أو إلى الغابة لتهيم على وجهها وسط همهمتها الغامضة، أو إلى الساحة للتحديق في المنحوتات التي عرضت للعلن في الليلة السابقة، والتي كانت القرية كلها تتحدث عنها.

الفصل الرابع



كانت العذراء، ودون أن تعرف ، وهى لاتزال فى سن الشباب، قد اكتسبت  بالفعل الحكمة  بطرق البرونز والذهب والفن. كطفلة وحيدة أمضت الكثير من الوقت في مشاهدة والدها في ورشته السرية، وكيف كان يشكل رموزه السحرية من الذهب أو البرونز. ويعمل كساحر غامض على الخشب و الحديد مع النار والصوان ومواد منصهرة أخرى. كان يستخدم التعاويذ والعزائم ، كما لو كان مشغولا دائما بأعظم أسرار الحياة. وشاهدت في صمت والدها وهو يعمل في ورشته السرية،والشرريتطايرفي الهواء، مع النباتات والزيوت. شاهدت كيف يجعل الحجارة والقضبان الحديدية غير مرئية، فقط بمجرد التحديق فيهم. شاهدت كيف انه جعل وردة تظهر على طاولة بيضاء، بمجرد التركيز على تلك المساحة من الطاولة . في بعض الأحيان، عندما يسمع الناس مقبلين على ورش عملهم  ، يجعلهم يتعجلون السير خلال ممر سري يأخذهم إلى الغابة، ليتجسسوا على أولئك الذين كانوا يتطاولون على أحلامه. كانت تشاهد ، في ذهول، كيف تختفي ورشة العمل تدريجيا ، حتى تصبح غير مرئية، فيما ضباب أبيض نقي، تصحبه رائحة ورد،يغلف المساحات المحيطة بها.

ذات مرة ، جاء فرسان الملك لأخذه بعيدا ، بناء على بعض الاتهامات الكاذبة أوغيرها، حدقت العذراء في دهشة وهي تشاهد والدها يختفي من بينهم ويتحول إلى هواء أبيض نقي.لم يبق في أثره سوى طائر واقف في مكانه. استولى الجنود على الطائر. وسمعت ضحكة والدها الاسرة يتردد صداها في انحاء  الغابة فيما الجنود يرحلون مع أسيرهم  الخرافي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة

مشاركة مميزة

  كافكا - حكم تسوراو 1 المسار الصحيح يكون على طول حبل، ليس حبلاً معلقا في الهواء، بل حبلاً ممدداً على الأرض. وهو يشبه سلك ا...