الخميس، 9 نوفمبر 2017

من رواية شوكولاته للروائية الانجليزية جوان هاريس





 

ثلاثاء المرافع[1]


              اتينا مع ريح الكرنفال. الريح الدافئة لشهر فبراير، المحملة بالروائح الدهنية الساخنة لقلي فطائر البانكيك والنقانق وبسكويت الوفل المغطى بالسكر الناعم  المطهوة على موقد يلوح هناك على جانب الطريق، مع الحلوى التي تسقط على الياقات ونهايات الأكمام وتتدحرج في المزاريب كترياق احمق للشتاء. كانت هناك حمى من الإثارة  في الحشود التي بطّنت الشارع الرئيسي الضيق، تطاولت الرقاب لتمسك ملمحاً من مرأى  العربة[2] المغطاة بقماش الكريب بشرائطها الطائرة ووريداتها الورقية. كانت أنوك تشاهد، بعينيها الواسعتين، بالونا أصفر في يد أحدهم وبوق لعبة في الأخرى، ما بين سلة للتسوق وكلبا بنيا حزينا. لقد رأينا الكرنفالات من قبل، انا وهي . موكبا من مائتين وخمسين عربة مزينة في باريس في يوم ماردي غرا[3] السابق ، ومئة وثمانين في نيويورك، ودزينتان من الفرق الراجلة في فيينا، رأينا مهرجين  يمشون على الركائز المتينة، وذوي الرؤوس الكبيرة  المتهدلة المصنوعة من عجينة الورق ، وحملة الصولجان بعصيهم وهي تلف وتتألق. ولكن في سن السادسة يكتسي العالم ببريق خاص. عربة خشبية، مزينة على عجل بورق الذهب وقماش الكريب ومشاهد من حكايا الجنيات .رأس تنين على درع، رابونزيل بشعر صوفي مستعار ، حورية البحر بذيل من السيلوفان، بيت الزنجبيل مغطى بالسكر والكرتون المقوى المذهب، ساحرة عند المدخل، أظافر خضراء غريبة تلوّح لمجموعة من الأطفال الصامتين  ... عند السادسة  يمكن أن ندرك الخفايا التي  تصير بعد عام بعيدة عن متناول اليد. وراء عجين الورق،طبقة السكر، والبلاستيك، لا تزال قادرة على ان ترى الساحرة الحقيقية، والسحر الحقيقي. كانت تبحث في وجهي، عينيها،اللتان بلون أزرق مخضر كمنظر الأرض من ارتفاع كبير، كانتا مشرقتين.
            

"هل نحن باقون؟ هل سنبقى هنا؟ " كان علي تذكيرها بأن تتكلم الفرنسية. "هل سنبقى؟ هل سنبقى؟' قالت وهي تتشبث بكم قميصي. شعرها كحلوى غزل البنات يتشابك في الريح.


فكرت. انه مكان جيد مثل أي مكان آخر . لانسكينيتسوس-تانس، مائتى نفس على الأكثر، ليست أكثر من مجرد ومضة على الطريق السريع بين تولوز وبوردو. تومض مرة واحدة وتختفي . شارع رئيسي واحد، صف مزدوج من المنازل نصف الخشبية بألوان بنية رمادية تتكيء سراً معا،بعض الجوانب الخارجية تمتد متوازية كأسنان شوكة محنية . كنيسة، بيضاء بدهان ابيض ناصع ، في ساحة من المحلات التجارية الصغيرة. مزارع تنتشر عبر الأرض الرحبة. البساتين والكروم وشرائط الأرض المغلقة والمرتبة وفقا للفصل الصارم في الزراعة الريفية: هنا التفاح، وهناك الكيوي، والبطيخ، والهندباء تحت اغطيتها البلاستيكية السوداء، تبدو الكروم ذابلة وميتة تحت شمس فبراير الرقيقة ولكنها تنتظر القيامة المظفرة بحلول آذار / مارس ...وراء ذلك، تانس، رافد صغير من نهر غارون، يتلمس طريقه عبر المرعى السبخ. والناس؟ أنهم يبدون تماما مثل كل من عرفناه. شاحبين قليلاً ربما في ضوء الشمس غير المعتاد،ضجرين قليلاً . الاوشحة والقبعات بلون الشعر تحتها ،بني، أسود أو رمادي.تصطف الوجوه مثل تفاح الصيف الماضي، والعيون تبرز من اللحم المتجعد مثل البلى الزجاجية في العجين القديم. وعدد قليل من الأطفال، بألوان محلقة من الأحمر والاخضر الليموني والأصفر، يبدون وكأنهم من عِرق مختلف. مع تقدم العربة بتثاقل على طول الشارع وراء الجرار القديم الذي يسحبها ، كانت امرأة ضخمة بوجه غير سعيد تثبت معطفا من الترتان حول كتفيها وتصرخ بشيء باللهجة المحلية نصف المفهومة. على العربة يقرفص سانتا كلوز، خارج الموسم بين الجنيات والسيرينات[4] والعفاريت، وهي تلقي الحلويات على الحشد بعدوانية بالكاد تتحكم فيها . رجل مسن ضئيل الجسم، يرتدي قبعة من الشعر بدلا من البيريه المستدير الأكثر شيوعا في المنطقة، يمسك بكلب بني حزين بين ساقي ويرسل نظرة اعتذار مهذبة . أرى أصابعه الرشيقة الرقيقة تتخلل فراء الكلب. اخذ الكلب يئن . وصار تعبير سيده مزيجا من الحب، والقلق، و الشعور بالذنب. لا أحد ينظر إلينا. فربما كنا غير مرئيتين ايضا . ملابسنا تشير الى اننا غريبتان، عابرتان. إنهم مهذبون، مهذبون جدا. لا أحد يحدق فينا. المرأة، بشعرها الطويل المدسوس في طوق معطفها البرتقالي، ووشاح من الحرير الطويل يرفرف حول عنقها . الطفل الذي يلبس جزمة ويلينغتون طويلة الساق ، ومعطفا مَطرياً بزرقة السماء . الوانهم تميزهم . ملابسهم غريبة، وجوههم - هل هي شاحبة جدا أم عابسة؟ - شعرهم يميزهم ايضاً ، أجانب، وغرباء دون شك . تعلّم الناس في لانسكوينيت فن المراقبة دون التواصل المباشر بالأعين. أشعر بأنظارهم مثل نفسٍ على مؤخرة عنقي، غريباً دون عداء ولكنه بارد مع ذلك. نحن مصدر فضول بالنسبة لهم، جزء من الكرنفال، ونفحة من بلاد قصّية. أشعر بعيونهم علينا وأنا أنتقل لشراء كعك الغاليت من البائع. كانت الورقة ساخنة ودهنية، وكانت فطيرة القمح الداكن مقرمشة عند الحواف ولكنها سميكة وجيدة في الوسط . اخذت قطعة منها وقدمتها إلى أنوك، وانا امسح الزبدة السائحة على ذقنها. البائع رجل اصلع ممتليء الجسم يضع نظارات سميكة، وجهه زلق من بخار الصفيحة الساخنة . استرق النظر نحو انوك . وعينه الأخرى تسجل كل التفاصيل، عارفا انه ستكون هناك أسئلة لاحقا.




- " انت في عطلة، سيدتي؟"


تسمح له آداب القرية بأن يسأل. ووراء لامبالاة الباعة رأيت جوعاً حقيقياً . المعرفة هي العملة هنا. ولكون أجين ومونتوبان قريبتان جدا، يعد السياح نادرون هنا .


- 'لفترة وجيزة.'


- " انت ِ من باريس، إذن؟"


لابد انها ملابسنا. على هذه الأرض غير المبهرجة الناس يعانون الرتابة . الالوان تعد ترفاً. فكساء الأرض سيء . الأزهار المشرقة على جانب الطريق هي لأعشاب ضارة، غازية، عديمة الفائدة.


- "لا، لا، لست من باريس".


وصلت العربة الى نهاية الشارع تقريبا. كانت فرقة صغيرة - بنايين، وبوقين، و ترومبون وطبل –تتبعها ، وتعزف مارشاً رقيقا لا يمكن تحديده. ودزينة من الأطفال تلحقها ، وتلقط الحلويات المتروكة . بعضهم يلبسون ازياء. أرى ذات الرداء الأحمر و شخص أشعث قد يكون الذئب يتشاجر مع رفيقه على حيازة حفنة من الشرائط الملونة .


كانت هناك شخصية سوداء تلوح في الخلف. في البداية اعتبرتها جزءا من الموكب - طبيب الطاعون ، ربما - ولكن فيما كانت تقترب أدركت انها كانت السوتان القديم لكاهن القرية. وهو في الثلاثينيات من العمر، على الرغم من انه يبدو من بعيد بوقفته الجامدة اكبر سنا .تلفت نحوي، ورأيت أنه غريب ايضا، عظام وجنته بارزة وعينان باهتتان كالشماليين وأصابع عازف البيانو الطويلة تستريح على الصليب الفضي الذي يتدلى من عنقه. ولعل هذا هو ما يعطيه الحق في التحديق في وجهي، بهذا الغرابة المنكرة . ولكني لم أر أي ترحيب في عينيه الباردتين اللامعتين. فقط نظرة القطط، الحذرة لشخص غير متثبت من موقعه . ابتسمت في وجهه. فنظر بعيدا، متفاجأً، وأخذ الطفلين نحوه.في لفتة تشير إلى النفاية التي تملأ الطريق الآن؛ على مضض بدأ الطفلان في مسحها، واخذا يجمعان الاشرطة الملونة التالفة و اغلفة الحلوى بين ذراعيهما الى المستوعب القريب. امسكت الكاهن يحدق في وجهي مرة أخرى وأنا ألتفت بعيدا، بنظرة لوكانت من رجل آخر قد اعدها تقييما .



[1]  ثلاثاء الاعتراف او ثلاثاء البدين.
[2] char
[3] ماردي جرا (بالفرنسية: Mardi gras) ويعني بالعربية الثلاثاء البدين هو كرنفال سنوي يقام في العديد من الدول الغربية يوم الثلاثاء من كل عام الذي يسبق أربعاء الرماد، ويتم في هذا الكرنفال إرتداء الملابس المبهرجة والرقص في الشوارع والأكل بكل شراهة حيث أن هذا اليوم هو اليوم الأخير قبل الصوم الكبير طبقًا للعقيدة المسيحية.
[4] في الأساطير اليونانية، السيرينات مخلوقات مؤنثة خطيرة، تجذب البحارة الذين يمرون بقربها  بالموسيقى الساحرة والأصوات لتغرق سفنهم على الساحل الصخري للجزر التي تسكنها .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة

مشاركة مميزة

  كافكا - حكم تسوراو 1 المسار الصحيح يكون على طول حبل، ليس حبلاً معلقا في الهواء، بل حبلاً ممدداً على الأرض. وهو يشبه سلك ا...