الخميس، 8 ديسمبر 2016

قلب الهايكو - تأليف: الشاعرة الأمريكية جين هيرشفيلد




في هذا الإطار الفاني الذي يحويني، و المصنوع من مئات العظام وتسعة فتحات، هناك شيء، وهذا الشيء  أسميه روحا تعصف بها الرياح، لعدم وجود اسم أفضل، ولأنه يشبه إلى حد كبير أقمشة رقيقة تمزقها وتبعثرها أدنى عصفة للريح. هذا الشيء في داخلي استغرق سنوات لكتابة الشعر، لمجرد تسلية نفسه في البداية، ثم جعله شغل حياته في النهاية  . ولا بد من الاعتراف، مع ذلك، أنه مر بأوقات غرق فيها في الاكتئاب بحيث صار مستعدا تقريبا للتخلي عن مسعاه ، وأوقات أخرى كان منتفخا بالزهو كي يفخر بانتصاراته العبثية على الآخرين. في الواقع، منذ أن بدأ بكتابة الشعر، لم يسبق أبدا أن وجدا سلاماً مع نفسه، ودائما  ما كان يتردد بين شكوك من نوع وآخر. يريد من جهة الحصول على الأمن من خلال انضوائه في خدمة بلاط ، وتارة أخرى يرغب في قياس مدى جهله بمحاولته أن يكون عالما، ولكنه مُنع من كليهما بسبب حبه الجامح للشعر. والحقيقة هي أنه لا يعرف فناً آخر غير فن كتابة الشعر، وبالتالي، فهو يتعلق  به بشكل أعمى نوعا ما .
                                                  ماتسو باشو، مذكرات حقيبة سفر بالية
              (ترجمة. نوبويوكي يواسا)


              كتب ماتسو باشو هذه الجمل في  العام 1687. وكان في الثالثة والأربعين. حينها، كانت"روحه القلقة التي تعصف بها الرياح" قد جددت بشكل كبير شكل الأدب الياباني، عن طريق جعل بيت الشعر يكتسب شكلا بالغ الإيجاز لا يسبر غوره تقريبا، و حولته إلى أداة معدومة الوزن و صلبة لاستكشاف التصور الدقيق و الاعماق الصمغية للحظة الواحدة  .
              وهنا بعض اللمحات المعروفة جيدا:

              بركة قديمة:
              ضفدع يقفز في
              صوت الماء

           
              الصمت:
              صرخة الزيز
              تتسرب إلى الحجر


            الربيع يرحل
              الطيور تبكي،
              عيون السمك مليئة بالدموع


              ذبابة الخيل
              بين الأزهار
              لا تأكلها،  ياصديقي الدوري          


              في سوق السمك
              حتى لثة  الشبوط المملحة
              تبدو باردة



              أعشاب صيف:
              ما تبقى
              من أحلام المحاربين


              في قصائده وفي تعاليمه للشعراء الآخرين، يضع باشو سلفاً ، تذكيرا بسيطا ومفيدا للغاية: أنه إذا كنت تنظر بنفسك، وتسمع بنفسك، وتدخل عميقا ما يكفي  داخل هذه الرؤية والسمع، فإن كل شيء سيتحدث معك ومن خلالك. "لتعرف المزيد عن شجرة الصنوبر"، يخبر طلابه "، اذهب إلى شجرة الصنوبر. ولتتعلم من الخيزران، أدرس الخيزران. " كان يجد في كل حياة و في كل شيء إمكانات متساوية للتبصر والتوسع. الموضوع الجيد للهايكو، كما يقترح، هو الغراب الذي يلتقط بزاقة الطين من بين النباتات في حقل الأرز .  عند رؤيته بحق، كان يعتقد ، ليس فيه ما لا يصبح زهرة، او قمراً. "ولكن ما لم يُنظر إلى الأشياء بعيون جديدة"، يضيف، "فلا شيء يستحق الكتابة أبداً."
             هائماً طوال حياته سواء بالجسد أو بالروح، شغل باشو نفسه بوجهته أقل من شغلها بجودة انتباهه كمسافر . قصيدة، يقول : توجد فقط حين تكون على طاولة الكتابة. في الوقت الذي يجف فيه حبرها، ينبغي اعتبارها مجرد قصاصة من الورق. في الشعر كما في الحياة، كان يرى كل لحظة  مثل بوابة بمزلاج. النفاذية مهمة أكثر في هذه العملية من المنتج أو الارادة : "إذا كنا  نرغب في اكتساب السيادة على الأشياء، فسنجد أن حياتها تتلاشى تحت أقدامنا دون أن تترك أثرا."

              شكل الهايكو الذي كتبه باشو هو الآن مألوف منذ فترة طويلة عند القراء الغربيين:   قصيدة الصورة القائمة على سبعة عشر وحدة صوتية ، ويكتب في سطور من  خمسة، وسبعة، ثم خمس وحدات لكل منها. (اليابانية بالمقابل تتوافق فقط بشكل تقريبي مع المقاطع اللفظية في اللغة الإنجليزية ،على الرغم من أنه يتم استخدام تلك الكلمة عموما عند ترجمتها، وفي شأن مماثل، "سطور"  الشعر اليابانية تُسمع، بدل أن تُكتب في سطور منفصلة بصرياً على الصفحة، ومع ذلك معظم ترجمات الهايكو الإنجليزية، كما هي هنا،  توجد في شكل ثلاثي الأسطر ) ومن المعروف على نطاق واسع بمزيد من التفصيل في الغرب:  يجب على القصيدة استحضار زمن معين بالإسم أو بما يصحبه .   الهايكو شكل مرّحِب ، ويدرّس في كثير من الأحيان في فصول المدارس الابتدائية. في دليل على كلاً من محدودية أي موضوع وليونة العقل الهايكو، كُتب أكثر من 19،000 هايكو حول اللحم المعلب - سبامكو -إلى هذا التاريخ وتم نشرها على الانترنت. أن تكتب أو تقرأ فقط بهذا المفهوم  هو ان تعود إلى ما كان عليه الهايكو قبل ان يقوم باشو بتغييره : " شعر لعوب" هو المعنى الحرفي للكلمة.  باشو  طلب أكثر من ذلك: أن يجعل من هذه الاداة الشعرية الوجيزة، والمرحة أنواعا من الاكتشافات العاطفية والنفسية والروحية التي عاشها في أعمال الشعراء السابقين . انه يريد تجديد الرؤية الإنسانية عن طريق وضع ما رآه في عدد قليل من الكلمات العارية  والتي في معظمها  كلمات عادية، وكان يريد أن يجدد اللغة من خلال ما طلب منها رؤيته .
              الشيخوخة التي تعلن عنها حساسية سن تسقط. قردُ فنان الشارع. ظواهر العالم الطبيعية؛ الامتحانات الخفية للعقل والمشاعر، كلها تُنقل في  هايكو باشو من مجرد ما يبدو جرّة فرشاة الحبر:

              أن نشيخ:
             نتناول  عشباً بحريا،
             فتسقط سن على الرمال


              أول هطول لمطر الشتاء :
              قرد الشارع، أيضا،
              يفتش عن  معطفه القشي الصغير



              سواد بحار،
              نداءات البط البري
             تعلو شاحبة البياض




              هلال القمر :
              يشبه أيضا
              اللاشيء



              حتى في كيوتو،
              سماع الوقواق،
              يجعلني أتوق  الى كيوتو




              الهايكو  لدي باشو، ككل، يجري فحصاً
   مطولاً لما يمكن أن يقال ويُعرف بالصورة. عندما يختفي الفضاء بين الشاعر و الشيء ، يعتقد باشو، فإن الكائن نفسه يمكن أن يبدأ في أن يصير محسوسا بشكل كامل. من خلال هذه الرؤية الشفافة، يصير وجودنا أكبر."النباتات والأحجار، والأواني، كل شيء لديه مشاعره الخاصة ، مشابهة لتلك التي للإنسان "، يكتب باشو. هذا البيان منذراً قبل ثلاثة قرون  من نظرية ت.س.إليوت عن التلازم الموضوعي : أن وصف أشياء معينة يثير فينا مشاعر مقابلة.
              الجمالية الصورية التي أدخلت على الشعر الغربي قرب بداية القرن العشرين من قبل عزرا باوند، آمي لويل، وليام كارلوس وليامز، وإليوت هي في عمقها جزء من الشعرية الحالية التي يقر عدد قليل الاعتراف بأصولها التاريخية في آسيا. واصل الهايكو في شكله الصارم رسم العديد من الكتاب الامريكيين المعاصرين كذلك، من الشاعر ريتشارد ويلبر إلى الروائي ريتشارد رايت، الذي كتب آلافا من  نصوص الهايكو خلال سنواته الأخيرة. المغناطيس هو المفارقة في نطاق الهايكو وسرعته . في لحظة إدراك الهايكو، يُرى شيٌء خارجي، يسمع، يذاق، و يحس مزروعاً في مشهد أو سياق. ذلك التصور الجديد بعدها يُبذر في استجابة داخلية تتجاوز إعادة الصياغة، أو الاسم، أو أي شكل آخر من أشكال الاحتواء.
              هنا واحد من ذلك الشعر ، موضوعاً في تصور موضوعي:

              الغسق: أجراس هادئة،
              حلقات عطر
              تعصف ليلا من زهور
               

              هذه القصيدة تعيش بكاملها تقريبا في الأذنين والأنف، في الحس بالخارج بشكل دقيق، رائحة أزهار أشجار معينة تتقوى عند حلول الظلام، أشجار البرتقال (قوية الرائحة ليلاً ) تحيط المعبد في أوينو، حيث تمت كتابة  هذا الهايكو . تُظهر الكلمات أسلوب تخليق الحس  المميز  لباشو : صوت  جرس وشفق، رائحة الزهور والوقت، ترسم معا في الذهن ، وتوضع في علاقة تبدو غير تعاقبية ولا سببية. لا يمكن  توصيف الشعور بهذا الهايكو إلا بتكرار كلماته الخاصة. مركز ثقله يكمن في العالم الظاهر ،خارج الذات. ومع ذلك يحمل رائحة و وزن شعورٍ قوي.
           يمكن لأدراك  الهايكو المضي في الاتجاه الآخر أيضا. الفكرة والعاطفة، أو الظرف الموجود بالفعل في العقل يمكن تبريده ، أو تسخينه ، أو أن يُبلل بتموضعه في مشهد خارجي، أو كائنٍ، أو صوت. هذه قصيدة  متأخرة والتي  يبين عنوانها – كما كتبه باشو – صورتها كنص ذاتي دون لبس  :

              "وصف ما أشعر به"

              هذا الطريق
              حين حلول الظلام  في الخريف
              لا أحد يمشي فيه
               

              يصف الهايكو حالة الشاعر  الداخلية  من دون تقدمة تفسيرية، لا تبدو كلماته  أقل  مظهرية من تلك القصائد السابقة. فكيف ينبغي أن تُفهم إذن ؟
             كي تقرأ الهايكو عليك أن تصبح مؤلفا مشاركاً فيه ، وأن تضع نفسك داخل كلماته حتى  يمكنها أن تكشف  عن واحدة من الاشكال المتقلبة-لحياتك الخاصة. الخبرة الناتجة  عن ذلك قد تختلف أيضا على نطاق واسع بين القراء:  الهايكو القائم على لغة الصورة  يتيح حرية لا حدود لها تقريبا في التفسير. وقد كتبت قرب نهاية حياة باشو " هذا الطريق" يمكن أن تُقرأ على أنها قصيدة للوحة تظهر مشهد الوحدة أو كقصيدة تتطلع نحو موتٍ غير مُرتاد . ويمكن أيضا أن تُقرأ  كبورتريه مباشر وفوري : مساء الخريف غير المأهول والطريق الخاوية قد تكون الشاعر وما يشعر به . مفهوما بهذه الطريقة الأخيرة، يعرض الهايكو كاتبهُ كشخص خارج أي معنى لذاته الشخصية. و قد سقط في عالم لا يوجد به مشاة ،  بل الطريق فقط.
              المسارات تُهم باشو، الذي يمكنه – مثل  وردزورث أو جون موير قطع عشرين أو ثلاثين ميلا في اليوم سيراً على الأقدام. في شبابه، يبدو انه سافر فقط كلما تطلبت الظروف. في منتصف عمره، سافر مختاراً ذلك ، اقتداء بشعراء جوالون سابقون كان معجبا بهم . وبحلول نهاية حياته، كانت سياحته  تكشف عن قلق لايقاوم ، وهو عجز بسيط على البقاء لفترة طويلة داخل المنزل. في الكلمات الافتتاحية من "الطريق الضيق للتوغل شمالاً "، وهو نثر و يوميات هايكو تصف رحلة لما يقرب من 1500 ميل قطعها سيرا على الأقدام، وعلى قارب، وفوق ظهور الخيل في سن الخامسة والأربعين، كتب باشو "، والقمر والشمس مسافرين لمئات الأجيال. السنين، تأتي وتذهب، والسائحون كذلك . يمضون حياتاً على غير هدى على متن قارب، يحيون العجائز بينما يمسكون لجام الحصان  بالفم  - لمثل هؤلاء الأشخاص، كل يوم هو رحلة، والرحلة في حد ذاتها تصبح وطناً ".

الجمعة، 25 نوفمبر 2016

8 قصائد - للشاعر الأمريكي بيلي كولينز-

Igor Morski

من مجموعته الشعرية محنة الشعر :

 صِبا



 وحيداً في الطابق السفلي،
أود أحيانا أن أخفض إحدى عيني
 إلى مستوى مسار السكة الحديدية الضيقة
 لمشاهدة القاطرة  النافثة
تسحب السيارات حول منعطف
 ثم تحدِّق في بعينها المبهرة .
 ما  الذي كان في تلك الأوقات
 قبل أن أرفع رأسي وأسمح للقطار
 أن يمضي صاخباً أمام أنفي؟
 أتذكر لا مبالاتي كثيراً
 بالعشب الزائف و المباني
 التي تُشكِّل المدينة المصغرة.
  أُكِن نفس الشعور نحو المحطة ومديرها،
 بوابات العبور والأضواء الساطعة،
سيارة الحليب ، السجلات التي بحجم قلم الرصاص،
 الرجال المعدنيون والنساء،
 برج المياه المتأرجح،
 ومرآة  البركة المستديرة .
 كل ما أردته هو أن أُعمى
 أكثر و أكثر بهذا الضوء المهتز
 فيما يتشبث القطار سريعاً بمساره البيضاوي.
 أو الأفضل من ذلك، أن أُغمض عيني،
 وأبقى هناك على القضبان الضيقة الباردة
 وأسمح للقطار أن يعبر نفقه خلالي
بالطريقة التي يعبر فيها نفقاً في الجبل
 بلون الصخور،
 وبعدها لن يكون هناك شيء
 سوى الصفير الطويل يقطع الظلام الدامس -
 لا الطابق السفلي، ولا الصبي،
 ولا ظهيرة الصيف الأبدية.


 بناية نسفت واجهتها


 كيف  تُنتهك فجأة
 الخصوصية في مدينة مقصوفة،
 كيف  يتعرى الأن ورق الجدران
المخطط بالأزرق و الأبيض
في  غرفة نوم بالطابق الثاني
 معرضاً لتساقط الثلوج الخفيف
 كما لو أن الغرفة قد أجابت الإنفجار
 مرتدية فقط بيجامتها المخططة .
 بعض الجيران والجنود
ينكشون الأنقاض تحتها
 ويحدقون للأعلى في الدرج المشنوق،
 في صورةٍ لجدٍ،
في  الباب المتدلي من مفصل واحد.
 والحمام يكاد يُشعِر بالحرج
 بجدران مغرته المكشوفة،
 والفوضى المتلوية لسباكته،
 الحوض الغارق حتى ركبتيه،
 مِزق ستارة الحمام،
 الفقاعات المفقأة للسمكة الذهبية.
تبدو الغرفة مثل منظر لبيت دُمى
 كما لو كان  بإمكان طفل  على ركبتيه أن يصلها
 و يلتقط المكتب، أو يمدد تجاعيد صورة.
 أو أنها غرفة على ركحٍ
 في مسرحية بلا شخوص،
 ولا حوار أو حضور،
بلا بداية أو وسط والنهاية
 مجرد قطع الأثاث المكسورة في الشارع،
 حذاء بين أحجار الطوب،
 الثلوج الخفيفة لاتزال تسقط
 على برج الكنيسة البعيد، و على أناس
 يعبرون جسراً لا يزال قائماً.
 وأبعد من ذلك، الغربان في شجرة،
 تمثال لزعيم على حصان،
 وغيوم تبدو مثل دخان،
 وأبعد من ذلك ، في بلد آخر
 على لحاف تحت شجرة ظليلة،
 يسكبُ رجلٌ النبيذَ في كأسين
 و تفك إمراءةٌ
  المماسك عن سبتٍ من الخوص
 مليئة بالخبز والجبن، وأنواع من الزيتون.

 

نظارة خاصة



 كان علي أن أرسل في طلبها
 لأنها ليست متاحة في أي متجر.
 تبدو مثل أي نظارة شمسية
 بلون خفيف و إطارات فضية،
 وبدلاً من تصفيتها أشعة
  الشمس الضارة ،
  تصفي  عنك بصرك الضار -
وأنتِ  على  النهج،
 تنتظرين في محطة حافلاتي،
 وأنتِ ، تواجهين نافذة المساء.
 كل صباح أضعها
 وأخرج من الباب الجانبي
أصفِّر لحن شكر لأنفي
 وأذني لحملهما لها في مكانها، هكذا،
 أغني أغنية إمتنان
 لصانع العدسات في مقعده الثقيل
 و للعدسات ذاتها
 لأنها تتيح  له أن يجيء تاماً، كله ماعداك.
 كيف تعرف الفرق
 بين الأسيجة الخضراء، والجدران الحجرية،
 و أنتِ بعيدة عني ،
 لاتزال حافلات المدرسة تومض في المطر
  وتأتي، بالإضافة لساعي بريد يلوّح بيده
 و كلاب الجارة الأم وابنتها ،
 ثم هناك غلاية الشاي
 على وشك أن تعزف نوتتها
 كل شيء يبحر جيدا ماعداك، يافتاتي.
 نعم، تماما كما يمر الهواء ليلاً من خلال الشاش،
 ولكن دون بعوض،
 وكما يُدوّم الماء في المصرف،
 دون قشر البيض،
 لذا تعبر التعريشة المزهرة والقمر
 خلال نظارتي الخاصة، ولكن دونكِ .
 دعيني أُبقي الأمر بهذه الطريقة،أقول لنفسي،
 فيما أضع نظارتي على الطاولة الليلية،
 وأسحب سلسلة المصباح،
وأتلو صلاة،- خلافاً لأغنية -
 أني لن أراكِ في أحلامي.


الحبل المظفور



اليوم التالي فيما كنتُ  أرتد ببطء
 عن الجدران الزرقاء الشاحبة لهذه الغرفة،
قافزاً من الآلة الكاتبة  إلى البيانو،
 من رف الكتب  إلى مغلف ملقى على الأرض،
  وجدت نفسي في حرف الحاء بالقاموس
 حيث وقعت عيني على كلمة الحبل.
 لا كعك قضمه روائي فرنسي
 يمكنه أن يرسل  المرء أكثر فجأة إلى الماضي،
 ماضٍ حيث كنت جالساً إلى طاولة في مخيم
قرب بحيرة آديرونداك العميقة
 أتعلم كيفية جدل شرائط رقيقة من البلاستيك
لأصنع حبلاً، أهديه لأمي.
 لم يسبق لي أن رأيت شخصاً يستخدم الحبل
 أو يضع واحداً، إذا كان ذلك ما تفعلوه به ،
 لكن ذلك لم يمنعني من الفتل
 شريط وراء اخر مراراً وتكراراً
 حتى صنعت
 حبلاً مظفوراً مربعاً
 أحمر وأبيض لأمي.
 من أعطتني الحياة والحليب من صدرها،
 وأعطيتها الحبل.
 من رعتني  أيام مرضي الكثيرة،
 رفعت ملعقة الدواء إلى شفتي،
 وضعت الكمادات الباردة  على جبهتي،
 ثم قادتني إلى الضوء المهوأ
 وعلمتني المشي والسباحة،
 وأنا، في المقابل، أهديتها الحبل المظفور .
 خذ الآلاف من وجبات الطعام، قالت:
 وخذ الملبس والتعليم الجيد.
 وخذي هذا الحبل، أجبتها،
 الذي صنعته بالقليل من مساعدة مستشار.
 ها هو جسد  يتنفس وقلب نابض،
 قوي الساقين والعظام والأسنان،
 وعينان صافيتان لقراءة العالم، همستْ،
 هاهو، قلتُ،  الحبل الذي صنعته في المخيم.
 وهنا، وددت أن أقول لها الآن،
 أنه هدية صغيرة ، لا تتعلق بالحكمة القديمة
 القائلة أنه لا يمكنك أبداً سداد  دينُ أمك،
لكنه قبولها الحزين عندما أخذت
 ذلك الحبل المزدوج من يدي،
  ما أكد لي كصبي حينها أنه يمكن
 لهذا  الذي لا طائل منه، والشيءالذي لا قيمة له
 و كنت قد ظفرته بسبب الملل
 أن يكون كافياً لجعلنا  متعادلين.




 صبي  يطلق النارعلى تمثال



 في وقت متأخر بعد الظهر،
 بداية فصل الشتاء، والثلج خفيف،
 كنت الوحيد في حديقة صغيرة
 لأشهد الصبي الوحيد يجري
 في دوائر حول قاعدة تمثال من البرونز.
 لم أتمكن  من قراءة إسم منحوتة
 رجل الدولة  الذي لاح في الآعلى،
و يده  على وركه البارد،
 فيما  يركض الولد،  دائباً،
 يوجه أصبعاً نحو التمثال
 ويسحب زناداً وهمياً
 مقلداً صوت إطلاق النار السريع.
 حل المساء ثقيلاً، وغاص عطارد،
 لكن الصبي بقي يجري في دائرةِ
  آثار أقدامه على الثلج
 ويطلق النار عشوائياً في الهواء.
 لن يجدالتاريخ أبداً طريقة ينتهي فيها،
 فكرتُ، وأنا أغادر الحديقة من البوابة الشمالية
 وأمشى ببطء الى المنزل
 أعود إلى طاولة مكتبي
 حيث  الورق الذي أكتب عليه
 كان مثل قطع من الزجاج
 يمكنني أن أرى من خلالها
 مئات من الطيور السوداء تَحُوم دائرةً في السماء تحتها.
  

 عبقري



 كانَ ما يصفونكَ  به في المدرسة الثانوية
 إذا  تعثرتَ في رباط حذاءك  في الردهة
 وتناثرت كل كتبكَ.
 أما إذا دخلتَ في باب خزانة مفتوحة،
فلكَ ان تُعرف باسم أينشتاين،
 الذي تصور ركوب الترام إلى ما لا نهاية.
 لاحقاً، يصبح العبقري  شخصاً
 يمكنه أن يأخذ قطعة من الطباشير ويكتب  قيمة باي تربيع
 لمائة خانة خارج العلامة العشرية
 أو رجلاً يدهن على ظهره فوق سقالة،
 أو يرسمَ ناعورة ماء في الهامش،
 أو يدندنَ قليلاً من موسيقى ليلية.
ولكن باكراً و في وقت سابق من هذا الأسبوع  على الممشى المشجّر،
 فكرتُ أن البجع الطائر على الخزان
 كانوا العباقرة الحقيقيون،
 فهم الذين عرفوا كيفية الطيران،
و كيف يكونوا جميلين وقساة معاً،
 وكيف يتزاوجون مدى الحياة.
 أربعة وعشرين عبقرياً  كلهم،
 لأني عددتهم كما فعل ييتس،
منتشرين على  السطح البللوري الهاديء
 ثمانية وأربعون إذا حسبنا انعكاسهم الأبيض معهم،
أوحتى خمسون إذا رغبت في حشري
 والكلبة التي تجري أمامي،
 والتي كانت على الأقل ذكية بما يكفي لتكون بالخارج
 ذلك اليوم، تتشمم الأرض،
وأنا ارفع رأسي في هواء الصباح المشرق.




 الطالب



 كتابي لتعلًّم الشعر،
 الذي إشتريته من مسطبة في الهواء الطلق على طول النهر،
 يحوي العديد من القواعد
 حول ما يجب تجنبه وما  يجب أن يُتبع.
 وجود أكثر من شخصين في قصيدة
 يُعدُّ حشداً، هذا أحدها.
 أذكر الثياب التي ترتديها
 فيما تؤلف، هذا آخر.
 تجنب كلمة دوامة،
 وكلمة مخملي، وكلمة الزيز.
 عندما  تكون في حيرة النهاية
 إجعل بعض الدجاج البني يقف في المطر.
 لا تقر أبداً أنك تنقح.
 واحرص دائماً على إبقاء قصيدتك في زمن واحد.
 أحاول أن أضع  ذلك في اعتباري،
 لكن في الأيام الأخيرة من الصيف
 كلما تطلعت من صفحتي
 ورأيت  علامة حرق على الأوراق الصفراء،
 أفكر في الرياح الشديدة البرودة
  التي قريباً ستطعنني من خلال سترتي.





 الحاصد



فيما أقود شمالاً على طول الطريق الريفي
 ذات صباح يوم ربيعي مشرق
 لمحت رجلا على جانب الطريق
 كان يحمل منجلا هائلا على كتفه.
 لم يكن يرتدي عباءة سوداء طويلة
 بغطاء يخفي جمجمته
وكان يلبس قميصا أبيض ممزقاً
 وزوجاً من سراويل الكاكي الفضفاضة.
 ولكنه تمهل، فيما عبرتُ بجانبه،
و اِلتفت  ونظرَ إليّ  لوهلة
 كما لو كان موعدي في سامراء،
و ليس غدائي المعتاد في  راكون لودج.
 ليس بوسعي أن اشير له
 في تلك اللحظة ولا حتى بتحية عارضة،
أو برفع الإبهام إلى أعلى، أو الإصبعين بشكل حرف V
 إشارة بإمكانها تخفيف هزة الخوف
 التي سرت كهربائها من كاحلي
 حتى فروة رأسي، مجرد نظرة،
 غلق البؤبؤ لجزء من الثانية
 مثل  نظرة من غريب  يمرق في قطار عابر.
 لم يكن بإمكاني فعلُ شيء
 سوى مواصلة القيادة، وإطفاء الراديو،
 وملاحظة كيف هو بياض البيوت ،
  و حُمرة الحظائر ، وخُضرة الحقول المنحدرة .

المشاركات الشائعة

مشاركة مميزة

  كافكا - حكم تسوراو 1 المسار الصحيح يكون على طول حبل، ليس حبلاً معلقا في الهواء، بل حبلاً ممدداً على الأرض. وهو يشبه سلك ا...