الخميس، 9 نوفمبر 2017

من رواية شوكولاته للروائية الانجليزية جوان هاريس





 

ثلاثاء المرافع[1]


              اتينا مع ريح الكرنفال. الريح الدافئة لشهر فبراير، المحملة بالروائح الدهنية الساخنة لقلي فطائر البانكيك والنقانق وبسكويت الوفل المغطى بالسكر الناعم  المطهوة على موقد يلوح هناك على جانب الطريق، مع الحلوى التي تسقط على الياقات ونهايات الأكمام وتتدحرج في المزاريب كترياق احمق للشتاء. كانت هناك حمى من الإثارة  في الحشود التي بطّنت الشارع الرئيسي الضيق، تطاولت الرقاب لتمسك ملمحاً من مرأى  العربة[2] المغطاة بقماش الكريب بشرائطها الطائرة ووريداتها الورقية. كانت أنوك تشاهد، بعينيها الواسعتين، بالونا أصفر في يد أحدهم وبوق لعبة في الأخرى، ما بين سلة للتسوق وكلبا بنيا حزينا. لقد رأينا الكرنفالات من قبل، انا وهي . موكبا من مائتين وخمسين عربة مزينة في باريس في يوم ماردي غرا[3] السابق ، ومئة وثمانين في نيويورك، ودزينتان من الفرق الراجلة في فيينا، رأينا مهرجين  يمشون على الركائز المتينة، وذوي الرؤوس الكبيرة  المتهدلة المصنوعة من عجينة الورق ، وحملة الصولجان بعصيهم وهي تلف وتتألق. ولكن في سن السادسة يكتسي العالم ببريق خاص. عربة خشبية، مزينة على عجل بورق الذهب وقماش الكريب ومشاهد من حكايا الجنيات .رأس تنين على درع، رابونزيل بشعر صوفي مستعار ، حورية البحر بذيل من السيلوفان، بيت الزنجبيل مغطى بالسكر والكرتون المقوى المذهب، ساحرة عند المدخل، أظافر خضراء غريبة تلوّح لمجموعة من الأطفال الصامتين  ... عند السادسة  يمكن أن ندرك الخفايا التي  تصير بعد عام بعيدة عن متناول اليد. وراء عجين الورق،طبقة السكر، والبلاستيك، لا تزال قادرة على ان ترى الساحرة الحقيقية، والسحر الحقيقي. كانت تبحث في وجهي، عينيها،اللتان بلون أزرق مخضر كمنظر الأرض من ارتفاع كبير، كانتا مشرقتين.
            

"هل نحن باقون؟ هل سنبقى هنا؟ " كان علي تذكيرها بأن تتكلم الفرنسية. "هل سنبقى؟ هل سنبقى؟' قالت وهي تتشبث بكم قميصي. شعرها كحلوى غزل البنات يتشابك في الريح.


فكرت. انه مكان جيد مثل أي مكان آخر . لانسكينيتسوس-تانس، مائتى نفس على الأكثر، ليست أكثر من مجرد ومضة على الطريق السريع بين تولوز وبوردو. تومض مرة واحدة وتختفي . شارع رئيسي واحد، صف مزدوج من المنازل نصف الخشبية بألوان بنية رمادية تتكيء سراً معا،بعض الجوانب الخارجية تمتد متوازية كأسنان شوكة محنية . كنيسة، بيضاء بدهان ابيض ناصع ، في ساحة من المحلات التجارية الصغيرة. مزارع تنتشر عبر الأرض الرحبة. البساتين والكروم وشرائط الأرض المغلقة والمرتبة وفقا للفصل الصارم في الزراعة الريفية: هنا التفاح، وهناك الكيوي، والبطيخ، والهندباء تحت اغطيتها البلاستيكية السوداء، تبدو الكروم ذابلة وميتة تحت شمس فبراير الرقيقة ولكنها تنتظر القيامة المظفرة بحلول آذار / مارس ...وراء ذلك، تانس، رافد صغير من نهر غارون، يتلمس طريقه عبر المرعى السبخ. والناس؟ أنهم يبدون تماما مثل كل من عرفناه. شاحبين قليلاً ربما في ضوء الشمس غير المعتاد،ضجرين قليلاً . الاوشحة والقبعات بلون الشعر تحتها ،بني، أسود أو رمادي.تصطف الوجوه مثل تفاح الصيف الماضي، والعيون تبرز من اللحم المتجعد مثل البلى الزجاجية في العجين القديم. وعدد قليل من الأطفال، بألوان محلقة من الأحمر والاخضر الليموني والأصفر، يبدون وكأنهم من عِرق مختلف. مع تقدم العربة بتثاقل على طول الشارع وراء الجرار القديم الذي يسحبها ، كانت امرأة ضخمة بوجه غير سعيد تثبت معطفا من الترتان حول كتفيها وتصرخ بشيء باللهجة المحلية نصف المفهومة. على العربة يقرفص سانتا كلوز، خارج الموسم بين الجنيات والسيرينات[4] والعفاريت، وهي تلقي الحلويات على الحشد بعدوانية بالكاد تتحكم فيها . رجل مسن ضئيل الجسم، يرتدي قبعة من الشعر بدلا من البيريه المستدير الأكثر شيوعا في المنطقة، يمسك بكلب بني حزين بين ساقي ويرسل نظرة اعتذار مهذبة . أرى أصابعه الرشيقة الرقيقة تتخلل فراء الكلب. اخذ الكلب يئن . وصار تعبير سيده مزيجا من الحب، والقلق، و الشعور بالذنب. لا أحد ينظر إلينا. فربما كنا غير مرئيتين ايضا . ملابسنا تشير الى اننا غريبتان، عابرتان. إنهم مهذبون، مهذبون جدا. لا أحد يحدق فينا. المرأة، بشعرها الطويل المدسوس في طوق معطفها البرتقالي، ووشاح من الحرير الطويل يرفرف حول عنقها . الطفل الذي يلبس جزمة ويلينغتون طويلة الساق ، ومعطفا مَطرياً بزرقة السماء . الوانهم تميزهم . ملابسهم غريبة، وجوههم - هل هي شاحبة جدا أم عابسة؟ - شعرهم يميزهم ايضاً ، أجانب، وغرباء دون شك . تعلّم الناس في لانسكوينيت فن المراقبة دون التواصل المباشر بالأعين. أشعر بأنظارهم مثل نفسٍ على مؤخرة عنقي، غريباً دون عداء ولكنه بارد مع ذلك. نحن مصدر فضول بالنسبة لهم، جزء من الكرنفال، ونفحة من بلاد قصّية. أشعر بعيونهم علينا وأنا أنتقل لشراء كعك الغاليت من البائع. كانت الورقة ساخنة ودهنية، وكانت فطيرة القمح الداكن مقرمشة عند الحواف ولكنها سميكة وجيدة في الوسط . اخذت قطعة منها وقدمتها إلى أنوك، وانا امسح الزبدة السائحة على ذقنها. البائع رجل اصلع ممتليء الجسم يضع نظارات سميكة، وجهه زلق من بخار الصفيحة الساخنة . استرق النظر نحو انوك . وعينه الأخرى تسجل كل التفاصيل، عارفا انه ستكون هناك أسئلة لاحقا.




- " انت في عطلة، سيدتي؟"


تسمح له آداب القرية بأن يسأل. ووراء لامبالاة الباعة رأيت جوعاً حقيقياً . المعرفة هي العملة هنا. ولكون أجين ومونتوبان قريبتان جدا، يعد السياح نادرون هنا .


- 'لفترة وجيزة.'


- " انت ِ من باريس، إذن؟"


لابد انها ملابسنا. على هذه الأرض غير المبهرجة الناس يعانون الرتابة . الالوان تعد ترفاً. فكساء الأرض سيء . الأزهار المشرقة على جانب الطريق هي لأعشاب ضارة، غازية، عديمة الفائدة.


- "لا، لا، لست من باريس".


وصلت العربة الى نهاية الشارع تقريبا. كانت فرقة صغيرة - بنايين، وبوقين، و ترومبون وطبل –تتبعها ، وتعزف مارشاً رقيقا لا يمكن تحديده. ودزينة من الأطفال تلحقها ، وتلقط الحلويات المتروكة . بعضهم يلبسون ازياء. أرى ذات الرداء الأحمر و شخص أشعث قد يكون الذئب يتشاجر مع رفيقه على حيازة حفنة من الشرائط الملونة .


كانت هناك شخصية سوداء تلوح في الخلف. في البداية اعتبرتها جزءا من الموكب - طبيب الطاعون ، ربما - ولكن فيما كانت تقترب أدركت انها كانت السوتان القديم لكاهن القرية. وهو في الثلاثينيات من العمر، على الرغم من انه يبدو من بعيد بوقفته الجامدة اكبر سنا .تلفت نحوي، ورأيت أنه غريب ايضا، عظام وجنته بارزة وعينان باهتتان كالشماليين وأصابع عازف البيانو الطويلة تستريح على الصليب الفضي الذي يتدلى من عنقه. ولعل هذا هو ما يعطيه الحق في التحديق في وجهي، بهذا الغرابة المنكرة . ولكني لم أر أي ترحيب في عينيه الباردتين اللامعتين. فقط نظرة القطط، الحذرة لشخص غير متثبت من موقعه . ابتسمت في وجهه. فنظر بعيدا، متفاجأً، وأخذ الطفلين نحوه.في لفتة تشير إلى النفاية التي تملأ الطريق الآن؛ على مضض بدأ الطفلان في مسحها، واخذا يجمعان الاشرطة الملونة التالفة و اغلفة الحلوى بين ذراعيهما الى المستوعب القريب. امسكت الكاهن يحدق في وجهي مرة أخرى وأنا ألتفت بعيدا، بنظرة لوكانت من رجل آخر قد اعدها تقييما .



[1]  ثلاثاء الاعتراف او ثلاثاء البدين.
[2] char
[3] ماردي جرا (بالفرنسية: Mardi gras) ويعني بالعربية الثلاثاء البدين هو كرنفال سنوي يقام في العديد من الدول الغربية يوم الثلاثاء من كل عام الذي يسبق أربعاء الرماد، ويتم في هذا الكرنفال إرتداء الملابس المبهرجة والرقص في الشوارع والأكل بكل شراهة حيث أن هذا اليوم هو اليوم الأخير قبل الصوم الكبير طبقًا للعقيدة المسيحية.
[4] في الأساطير اليونانية، السيرينات مخلوقات مؤنثة خطيرة، تجذب البحارة الذين يمرون بقربها  بالموسيقى الساحرة والأصوات لتغرق سفنهم على الساحل الصخري للجزر التي تسكنها .

الجمعة، 3 نوفمبر 2017

قسم التأمل - جيني اوفيل

قسم التأمل (رواية) - جيني اوفيل.


1


              للظباء القدرة على الرؤية لعشرة اضعاف، قلتَ لي. كانت تلك البداية أو قريبا منها. وذلك يعني أنها تستطيع في ليلة واضحة رؤية حلقات زحل.
              كانت لا تزال امامنا أشهر قبل أن نخبر بعضنا كل قصصنا. وحتى ذلك الحين بدا بعضها صغير جدا ليهمنا. فلماذا يعود لي الآن؟ الآن، عندما أشعر بالضجر من كل شيء.
              الذكريات مجهرية. جسيمات صغيرة  تهب معا او لوحدها . الناس الصغار، كما دعاهم اديسون. الكيانات . كانت له نظريته عن المكان الذي يأتون منه، و هي انهم من الفضاء الخارجي.
              في المرة الأولى التي سافرت فيها لوحدي، قصدت مطعما وطلبت شريحة لحم. ولكنها عندما جاءت كانت مجرد قطعة من اللحم النيء مقطعة إلى قطع. حاولت أكلها، لكنها كانت مدممة جدا. رفض حلقي ابتلاعها. وأخيرا، بصقتها في منديل. كان لا يزال هناك قدر كبير منها على صحني. كنت أخشى ان يلاحظ النادل أني لم أكل ويضحك أو يصرخ في وجهي. ولفترة طويلة، جلست هناك، انظر اليها. ثم أخذتُ لفة، وجوفتها، ودسستُ اللحم بداخلها. كانت عندي محفظة صغيرة جدا وفكرت اني  يمكن أن اُدخل اللفة فيها دون أن يراني احد. دفعت الفاتورة، و مشيت، متوقعة أن اُوقف ، ولكن لم يُوقفني احد .
              قضيت فترة ما بعد الظهر في منتزه المدينة، متظاهرة بقراءة هوراس. عند الغسق، تدفق الناس من المترو إلى الشارع. في باريس، يُطلب حتى من مترو الانفاق ان يكون جميلا. يغيرون سماواتهم، وليس اروحهم ، التي تفرّ عبر البحر.
              كان هناك صبي كندي يأكل دقيق الشوفان فقط. وصبي فرنسي طلب ان يفحص أسناني. وصبي انجليزي جاء من طابور الكهنة. وصبي هولندي يبيع مُعينات السمع.
              التقيتُ استرالياً قال انه يحب السفر وحده. تحدث عن وظيفته ونحن نشرب قرب البحر. عندما دخلت طالبة ، ومرت امامه، قال لي اللعنة انها جميلة. اومأت براسي، و مشيت، وعلى الرغم من أنني لم ادرّس أي شخص اي شيء. سألته ماذا تدرّس ؟،. التزلج بعجلات الباتيناج، أوضح لي .
              كان ذلك في الصيف الذي أمطر وأمطر. أتذكر رائحة الكلاب الحزينة التي فاحت من سترتي وحذائي يخوض الماء بجنون. في كل مدينة، نفس المشهد.  صبي يخطو إلى الشارع ويفتح مظلة لفتاة ليبقيها جافة عند مدخل الباب .
              ليلة أخرى. في شقتي القديمة في بروكلين. كان الوقت متأخرا، ولكني بالطبع، لم أستطع النوم. فوقي، كان مهووسوا سرعة يفككون بمرح شيئا ما . يتركونه على النافذة. شعرتُ ببرد مفاجئ فسحبتُ اللحاف على رأسي. تلك هي الطريقة التي يُخرجون بها الخيول من النار، كما اتذكر. عندما لايمكنها الرؤية، فلن تصاب بالذعر. حاولت معرفة ما إذا شعرتُ بالهدوء اكثر واللحاف  على رأسي. كلا لم أكن كذلك ،كانت الاجابة.



2

              حصلتُ على وظيفة لتحري الحقائق في مجلة علمية . الحقائق الممتعة، كما يسمونها . الألياف المتصلة في الدماغ البشري، اذا مُدّت، من شأنها أن تلفّ حول الأرض أربعين مرة.  هذا رهيب، كتبتُ في الهامش، لكنهم  اخضعوها لذلك على أي حال.
               أحببتُ شقتي لأن جميع نوافذها كانت على مستوى الشارع. في الصيف، يمكنني أن أرى أحذية الناس، وفي فصل الشتاء،الثلوج. ذات مرة ، وأنا اضجع في السرير، ظهرت شمس حمراء ساطعة من النافذة. ارتدت من جانب إلى آخر، ثم صارت كرة.
              الحياة تساوي البنية بالإضافة إلى النشاط.
              تشير الدراسات إلى أن القراءة تضع طلبا هائلا على الجهاز العصبي. وزعمت إحدى مجلات الطب النفسي أن القبائل الأفريقية احتاجت إلى مزيد من النوم بعد أن تم تعليمها القراءة. كان الفرنسيون مؤمنين كبار بمثل هذه النظريات. وخلال الحرب العالمية الثانية، ذهبت أكبر حصص الإعاشة إلى أولئك الذين يعملون في المجال البدني الشاق ومن تنطوي أعمالهم على القراءة والكتابة.
              لسنوات، ابقيتُ ملاحظة مكتوبة فوق مكتبي. العمل وليس الحب! كانت تقول . بدت نوعا أكثر رسوخا من السعادة.
              عثرتُ على كتاب بعنوان الازدهار وليس البقاء داخل صندوق في الشارع. وقفتُ هناك، وانا اقلب صفحاته ، غير راغبة في التورط.
         ربما تعتقد أن الألم النفسي الذي تعاني منه هو حالة دائمة، ولكنه بالنسبة للغالبية العظمى من الناس ليس سوى حالة مؤقتة.
              (ولكن ماذا لو كنتُ حالة خاصة ؟ ماذا لو كنتُ من الأقلية؟)
              لدي أفكار عن نفسي. غير مختبرة إلى حد كبير. عندما كنتُ طفلة، كنت أحب أن أكتب اسمي بحروف عملاقة من العصي.
              ما قاله كوليردج : لو لم اخدع  نفسي كثيرا ، لما حررت تماما مفاهيم الزمان والمكان...ولكني على ثقة بأنني على وشك أن أفعل ماهو أكثر - أي أني سأكون قادرا على تطوير كل الحواس الخمسة...وفي هذا التطوير حل لسيرورة الحياة والوعي.
              كانت خطتي ألا اتزوج أبدا. كنتُ اخطط لاصبح وحش فن بدلا من ذلك. النساء تقريبا لا يصبحن وحوش فن لأن وحوش الفن لايشغلون انفسهم سوى بالفن، ولا يحفلون ابدا بالأشياء الدنيوية. لم يكن نابوكوف حتى ليثني مظلته. وكانت فيرا تلعق له الطوابع.
              انها خطة جريئة هذا ما قاله صديقي الفيلسوف. ولكن في يوم ميلادي التاسع والعشرين فتحت كتابي. إذا لم اخدع  نفسي كثيرا...
              ذهبتُ إلى حفلة وشربتُ حتى ثملت.
              هل الحيوانات وحيدة؟
              الحيوانات الأخرى، أعني.
              ولم يمض وقت طويل على ذلك، حتى ظهر صديق سابق على عتبة بابي. يبدو أنه قدم على طول الطريق من سان فرانسيسكو فقط ليشرب القهوة. في الطريق إلى العشاء، اعتذر عن أنه لم يكن يحبني حقا. وأعرب عن أمله في إجراء تعديلات. "انتظر"، قلت له . "هل تقوم بخطوات؟"
              في تلك الليلة على شاشة التلفزيون، رأيت الوشم الذي تمنيت طوال حياتي نيله. إن لم تكن تعرف المعاناة، فاحببني. لكن قاتلا روسيا غلبني عليه.
              بالطبع، فكرت في الصبي السكران في نيو اورليانز، ذلك الذي أحببته أكثر . كل ليلة في حانة البحارة القديمة، كنت اقشر الملصقات عن زجاجاته واحاول إغراءه. لكنه لن يأتي. ليس حتى ينتشر الضوء عبر النافذة.
              كان جميلا جدا واعتدت على مشاهدته نائماً . إذا كان لي أن ألخص ما فعله بي، لوددت أن أقول أنه كان هذا: جعلني أغني معه جميع الأغاني السيئة على الراديو. في كلا الحالين عندما كان يحبني وعندما لم يعد كذلك.
              في تلك الأسابيع الاخيرة ، قدنا السيارة دون حديث، في محاولة منا لتجاوز الحرارة، الكل لوحده في الحلم الذي صارت عليه المدينة. كنت أخشى الكلام، او حتى ان ألمس ذراعه . أتذكُر هذه الإشارة، هذه الشجرة، هذا الشارع المكسور.أتذكر أنه من الممكن أن تشعر بهذه الطريقة. كانت هناك عشرون يوما في التقويم، ثم خمسة عشر، ثم عشرة، ثم اليوم الذي عبأت فيه سيارتي وغادرت. قدتُ السيارة على طول ولايتين، وانا انشج، الحرارة مثل يد فوق صدري. ولكني لم أتذكر. لم أكن أتذكر.


3

               سافر رجل إلى جميع أنحاء العالم محاولا العثور على الأماكن التي يمكنه الوقوف فيها ساكناً و ان لا يسمع أي صوت لإنسان. فمن المستحيل الشعور بالسكينة في المدن، كما كان يعتقد، لأننا نادرا ما نسمع غناء طيور فيها . آذاننا تطورت لتكون أنظمة إنذار. نحن في حالة تأهب قصوى في الأماكن التي لا تغني فيها الطيور. ان تعيش في المدينة هو أن تظل  جافلاً إلى الأبد .
              يقول البوذيون أن هناك 121 حالة للوعي. من بينها، ثلاثة فقط تنطوي على البؤس أو المعاناة. معظمنا يقضي وقته متنقلاً جيئة وذهاباً بين تلك الثلاثة.
              طائر القيق الأزرق[1] يقضي كل يوم جمعة مع الشيطان، قالت لي السيدة العجوز في المنتزه.
              "عليكِ الخروج من هذ المدينة الغبية. قالت شقيقتي: "امنحي نفسك بعض الهواء النقي". قبل أربع سنوات، غادرتني هي وزوجها. انتقلا إلى ولاية بنسلفانيا إلى منزل قديم متداعٍ على نهر ديلاوير. في الربيع الماضي، جاءت لزيارتي مع أطفالها. ذهبنا إلى المنتزه.و إلى حديقة الحيوان. و القبة الفلكية. ولكنهم بقوا يكرهونها . لماذا يصرخ الجميع هنا؟
              كانت شقة الفيلسوف هي المكان الأكثر سلاما الذي عرفته. مضاءة جيدا وبدت بارزة فوق الماء. قضينا أيام الأحاد هناك نتناول الفطائر والبيض. كان يعمل مساعداً وقتها ويقوم بعمل في وقت متأخر من الليل في محطة إذاعية. "عليكِ ان تري هذا الرجل الذي أعمل معه. انه يصنع مشاهد صوتية للمدينة. "نظرت إلى الحمام خارج نافذته. "ماذا يعني ذلك؟" قلتُ.
              أعطاني قرصاً مدمجاً لاخذه معي الى المنزل. على الغلاف كان دفتر هاتف أصفر قديم، افسده المطر. أغلقت عيني واستمعت إليه. من هذا الشخص؟ تساءلت.


4

              أعطيتك الشيء المفضل لدي من الحي الصيني، دسستُه بشكل ثمل في يدك. كنا في مطبخي تلك الليلة الأولى. قناع شاش جميل، تقول الرزمة.
              في الصباح التالي ذهبتُ إلى شقة الفيلسوف. "أوه لا، ماذا فعلتْ؟" قلتُ. صنع لي إفطارا واخبرني عن موعده الغرامي. "أين ترى نفسكَ بعد خمس سنوات؟" كانت قد سألته. "ماذا عن عشرة؟ ماذا عن خمسة عشر عاما؟ " وعندما اوصلها الى منزلها، صارت ثلاثين عاما. قلت له بدا الأمر وكأن بطة ودباً يذهبان الى موعد. اعتبر الفيلسوف هذا. "أشبه ببطة ومارتيني".كما قال.
              اتصلتَ بي. واتصلتُ بك. وقلنا تعال الى هنا، تعال الى هنا .
              عرفتُ أنكَ لاتخاف الطقس. أردتَ أن تجوب جميع أنحاء المدينة، وليأتي المطر ليأتي الثلج ليأتي الصقيع، وانتَ تسجل الأشياء. اشتريتُ معطفا أكثر دفئا به العديد من الجيوب الخفية. ووضعتَ يديك في جميعها .
              استمعتُ لكَ على الراديو في منتصف الليل. مرة اذعتَ تسجيلا لذراتٍ تتحطم. وفي وقت اخر رياحاً تكنس الأوراق. التسجيلات الميدانية، كنت تسميها . كان البرد مُجمِداً في شقتي وكنتُ استمع إلى عرضكَ في السرير وقد سحبتُ الاغطية الى ذقني. ارتديتُ قبعة وقفازات وجوارب ثقيلة من الصوف مصنوعة للرجال. في احدى الليالي اذعتَ المقطوعة الذي صنعتها لأجلي. صوت شاحنة الآيس كريم يعلو عليه صوت النوارس في جزيرة كوني و عجلة العجائب  تدور .
              من الغباء أن يكون هناك تلسكوب في المدينة، ولكننا اشترينا واحدا على أي حال.
              في تلك السنة لم أسافر لوحدي .سوف ألتقيكِ هناك، قلتَ لي . ولكن الوقت كان متأخرا عندما وجدنا بعضنا في محطة القطار. كنتَ قد حلقتَ بعشرة دولارات. وكنتُ أكثر بدانة مما كنتهُ عندما رحلت. بدا من الممكن أننا سافرنا عبر العالم عن طريق الخطأ. حاولنا حجز الحكم.
              لم نفهم أين كنا ذاهبين عندما أخذنا القارب إلى كابري. وكان ذلك في مطلع نيسان / أبريل. المطر الخفيف البارد يغشى البحر. أخذنا سكة الحديد المعلقة من الرصيف ووجدنا أنفسنا السياح الوحيدين . قدمتم مبكرين، قال المحصل مستهجناً . كانت الشوارع تفوح برائحة كالخزامى، ولوقت طويل لم يلحظ أحد منا أنه لم تكن هناك أية سيارات. بقينا في فندق رخيص ،المنظر من نافذته أكثر جمالا من أي شيء رأيته من قبل. كانت المياه زرقاء شريرة. برز جرف منحدر صخري خارجاً من البحر ، رغبتُ في البكاء لأنني كنت متأكدة من أنني لن أكون ابداً في مثل هذا المكان مرة أخرى. دعينا نستكشفه ، قلتَ لي ، وهو ما تقوله دائما عندما ابدو بتلك الطريقة. مشينا على طول حافة الجرف حتى وصلنا إلى محطة للحافلات. هناك انتظرنا، ممسكين بايدينا معا، دون كلام. كنت أفكر في ما سيكون عليه الامر أن اعيش في مكان ما جميل جدا. هل سيصلح ذلك عقلي؟. مرت الحافلة. تم توظيف ثلاثة أشخاص لتشغيلها: واحد لبيع التذاكر، وواحد لأخذها، واخر يقود. هذا يجعلنا سعداء. أخذتنا إلى الجانب البعيد من الجزيرة، حيث بدا الناس مستغربين أكثر لوجودنا. داخل متجرٍ، رأيتُ العلكة المسماة بروكلين وقمتَ بشرائها لي.

5

              مررنا على ديوراما[2] الظباء. "10 أضعاف" قلتُ، ولكنك لم تنظر في وجهي. " ما الأمر؟" سألتكَ. لا شيئ. لا شيئ. ولكنكَ، في وقت لاحق، في غرفة الأحجار الكريمة، ركعتَ على احدى ركبتيك . وكل شيء من حولنا يبرق .
              نصيحة من هسيود: اختر من الفتيات من تعيش بالقرب منك وتحقق من كل التفاصيل، بحيث لاتكون عروسك نكتة الجيران . ليس هناك ما هو أفضل للإنسان من زوجة صالحة، وليس هناك رعب يضارع تلك السيئة .
              بعدها ، نزلنا إلى الغرفة المقترضة، وسقطنا على السرير المقترض. خارجاً، كان كل شخص قد أحبنا ينتظر. أخذتَ يدي، وقبلتها قائلا: "ماذا فعلنا؟ ماذا فعلنا بحق الجحيم ؟ "
              عندما التقينا لأول مرة، كنتُ اعاني من سعال مستمر. سعال المدخنين، على الرغم من أني لم ادخن ابداً . تنقلتُ من طبيب إلى طبيب، ولكن لا أحد استطاع ان يعالجه ابداً . في تلك الأيام الأولى، بذلتُ قدرا كبيرا من الجهد محاولة عدم السعال كثيرا. كنتُ استلقي مستيقظة بجانبك في الليل محاولة قصارى جهدي كي لا اسعل . كان اظن بأنني ربما أصبت بالسل. هنا يرقد شخص اسمه مرسوم في الماء، فكرت مسرورة . ولكن لا، لم يكن ذلك كذلك. بعد أن تزوجنا، هرب السعال بعيدا. فماذا كان ، أتساءل؟
              الشعور بالوحدة؟
              مضجعة في السرير، وأنت تحضن جمجمتي كما لو كانت فيها بقعة لينة تحتاج إلى أن تكون محمية. ابقي بقربي، كنت تقول. لماذا أنت بعيدة هناك؟.



[1] jay  طائر من فصيلة الغراب.
[2] نموذج يمثل مشهدا بأشكال ثلاثية الأبعاد، سواء في معرض مصغر أو في متحف كبير.

الثلاثاء، 24 أكتوبر 2017

ديفيد ماركسون - عشيقة فتجنشتاين




عشيقة فتجنشتاين (رواية ) - دايفيد ماركسون


في البداية، كنت اترك رسائل في الشارع أحيانا .
شخص ما يعيش في متحف اللوفر، كما ستقول بعض الرسائل. أو انه في المعرض الوطني .
طبعا، يمكنهم قول ذلك فقط عندما اكون في باريس أو في لندن. اما هناك شخص ما يعيش في متحف متروبوليتان، فهو ما سيقولونه عندما اكون لا زلت في نيويورك .
لم يأت أحد، بالطبع. وفي نهاية المطاف توقفت عن ترك الرسائل .
لقول الحقيقة، ربما تركت ثلاث أو أربع رسائل بالاجمال .
ليس لدي أي فكرة كم مضى من الوقت عندما كنت أفعل ذلك. وإذا اضطررت للتخمين، أعتقد أنني سوف اخمن انها عشر سنوات .
ربما كان الأمر قبل عدة سنوات أكثر من ذلك .
كنت بالطبع خارج المنطق لفترة معينة أيضا، في ذلك الوقت .
لا أعرف كم من الوقت تلك الفترة، ولكنها فترة معينة .
وقت خارج المنطق. هي عبارة أظن أنني لم افهمها ابدا بشكل صحيح، والآن يحدث ان استخدمها .
الوقت خارج المنطق تعنى الجنون، أو ان الوقت خارج المنطق تعني ببساطة انني نُسيت ؟
ولكن في كلتا الحالتين كان هناك تساؤل صغير حول هذا الجنون. مثلما قدت السيارة ذلك الوقت إلى تلك الزاوية الغامضة من تركيا، على سبيل المثال، لزيارة في موقع طروادة القديمة .
ولسبب ما أردت خاصة أن انظر إلى النهر هناك، الذي كنت قد قرأت عنه كذلك، وهو يتدفق متجاوزا القلعة نحو البحر .
لقد نسيت اسم النهر، الذي كان في الواقع تياراً موحلاً .
وعلى أي حال أنا لا أقصد إلى البحر، ولكن إلى الدردنيل، الذي كان يسمى هيليسبونت .
تم تغيير اسم طروادة أيضا، طبيعياً. صار هيسارليك، وهو اسمها الذي تغيرت اليه   .
كانت زيارتي خيبة أمل بعدة طرق ، الموقع كان صغيرا بشكل مثير للدهشة. كان أكثر قليلا من مبنىً في مدينك العادية مرتفعا بضعة طوابق ، عمليا .
ومع ذلك، يمكن للمرء من الأنقاض أن يرى جبل إيدا، وكل تلك المسافة بعيدا .
حتى في أواخر الربيع، كانت هناك ثلوج على الجبل .
ذهب شخص ما إلى هناك كي يموت، كما اعتقد، في واحدة من القصص القديمة. باريس، ربما .
أعني باريس الذي كان عشيق هيلين،  طبعا. والذي أصيب بجروح قرب نهاية تلك الحرب .
في واقع الأمر كانت هيلين كما اعتقدت في الغالب، عندما كنت في طروادة .
كنت على وشك أن أضيف  حتى أنني حلمت ، لفترة من الوقت، بأن السفن اليونانية كانت لاتزال ترسو على الشاطئ هناك.
حسنا، كان يمكن أن يكون ذلك  شيئا غير مؤذٍ  تماما كحلم  .
من هيسارليك، يكون البحر على بعد ساعة سيرا على الأقدام. ما كنت قد خططت للقيام به هو أن أخذ زورقا عاديا واعبر، ومن ثم اقوده إلى أوروبا عبر يوغوسلافيا .
أعني يوغوسلافيا ربما . في أي حال على ذلك الجانب من القناة حيث هناك آثار للجنود الذين لقوا حتفهم في الحرب العالمية الأولى .
على الجانب حيث توجد طروادة، يمكن للمرء أن يجد النصب حيث دفن أخيل، منذ وقت طويل جدا .
حسنا، يقولون إنه حيث دفن أخيل .
ومع ذلك، أجد أنه من غير العادي أن شبابا ماتوا هناك في حرب منذ أمد بعيد ، ثم ماتوا في نفس المكان بعدها بثلاثة آلاف سنة.
ولكن لذلك ربما،غيرت رأيي حول عبور هيليسبونت. وأعني الدردنيل. مافعلته هواختيار زورق بخاري والذهاب به في طريق الجزر اليونانية وأثينا، بدلا من ذلك .
حتى بمجرد صفحة مزقتها من الأطلس، بدلا عن الخرائط البحرية، استغرقني الامر يومين متمهلين فقط كي اصل اليونان.  الكثير من التفاصيل عن تلك الحرب القديمة  كانت دون شك  امرا مبالغا فيه .
يمكن لأشياء معينة ان تحرك شيئا فيك .
على سبيل المثال وبعد يوم أو يومين ، رؤية البارثينون بقرب مغيب الشمس .
كان ذلك الشتاء الذي عشت فيه في متحف اللوفر، على ما أظن. كنت احرق التحف وإطارات الصور طلباً للدفء، في غرفة سيئة التهوية .
ولكن بعدها ومع أول علامات ذوبان الجليد،صرت اغير المركبات كلما نفذ مني الوقود ، وبدأت من جديد عبر وسط روسيا قاصدة بيتي  ثانية .
كل هذا صحيح بلا شك، كما قلت انه حدث منذ فترة طويلة. وكما اني قلت أيضا، ربما كنت مجنونة .
ثم مرة أخرى أنا لست على الإطلاق متأكدة من اني كنت مجنونة عندما توجهت إلى المكسيك، قبل ذلك .
ربما قبل ذلك. في زيارة  لقبر طفل كنت قد فقدته، منذ فترة أطول من كل هذا ، ويدعى آدم .
لماذا كتبت أن اسمه آدم ؟
سيمون هو اسم صبيِّ الصغير .
وقتا خارج المنطق. هل يعني أنه يمكن للمرء أن ينسى للحظة اسم طفله الوحيد، الذي سيكون في الثلاثين الآن ؟
أشك انه في الثلاثين. لنقل السادسة والعشرين، أو السابعة والعشرين .
هل أنا في الخمسين، اذن ؟
هناك مرآة واحدة فقط، هنا في هذا البيت على هذا الشاطئ. ربما تقول المرآة الخمسين .
يدي تقول ذلك. لقد حان الوقت ليظهر على ظهر يدي .
على العكس من ذلك ، أنا ما زلت احيض. بشكل غير منتظم، بحيث غالبا ما يستمر حيضي لأسابيع، ولكنه بعد ذلك لا يحدث مرة أخرى حتى اكون قد نسيته تقريبا  .
ربما لا أكون قد تجاوزت السابعة والأربعين أو الثامنة والأربعين. وأنا على يقين من أنني حاولت مرة أن أحفظ حسابا مؤقتا، للأشهر ربما، وبالتأكيد للفصول على الأقل. ولكني لا أتذكر حتى الآن متى ايقنت أنني قد اضعت وقتا طويلا منذ أن فقدت المسار .
أعتقد أنني كنت في طريقي الى الأربعين،   عندما بدأ كل هذا .
تركت تلك الرسائل بالطلاء الأبيض. وبحروف كبيرة ، عند التقاطعات، حيث يمكن لأي شخص قادم أو ذاهب ان يراها  .
أحرقت قطعاً أثرية وبعض الأشياء الأخرى عندما كنت في متحف متروبوليتان أيضا.
حسنا، كنت اشعل النار هناك بشكل دائم، في الشتاءات .
كان ذلك الحريق مختلفا عن الحريق الذي اشعلته في متحف اللوفر. لقد اضرمت النار في تلك القاعة الكبرى في المتروبوليتان ، حيث يذهب المرء إلى الداخل والخارج .
في الواقع صنعت مدخنة عالية من القصدير ، أيضا. حتى يتسنى للدخان أن ينجرف إلى الكوة العالية فوقها .
ما كان علي القيام به هو احداث ثقوب في الكوة، حالما انهيت تشييد المدخنة .
فعلت ذلك بمسدس، بعناية فائقة، في زاوية أحدى الشرفات، بحيث يخرج الدخان ولا يدخل ماء المطر.
هطل المطر. ليس الكثير من المطر، ولكن بعضه .
حسنا، في نهاية المطاف جاء عابرا نوافذ أخرى أيضا، عندما انكسرت لوحدها. أو بسبب الطقس .
النوافذ تواصل التكسر. العديد منها مكسور هنا، في هذا البيت .
غير أنه الصيف في الوقت الحاضر. ولست أمانع هطول المطر .
من الطابق العلوي، يمكن للمرء أن يرى المحيط. اما هنا فتوجد الكثبان الرملية التي تعيق الرؤية .
في الواقع هذا هو بيتي الثاني على نفس هذا الشاطئ. الأول، أحرقته حتى تسوى بالأرض. ما زلت غير متأكدة كيف حدث ذلك، على الرغم ربما من اني كنت اطبخ . للحظة مشيت نحو الكثبان الرملية للتبول، وعندما نظرت إلى الوراء كان كل شيء مشتعلا .
هذه المنازل الشاطئية كلها من خشب، وطبعا. كل ما امكنني القيام به كان الجلوس على الرمال ومشاهدته يحترق. أحترق طوال الليل .
ما زلت الاحظ البيت المحروق، في الصباحات، عندما أتمشى على طول الشاطئ .
حسنا، من الواضح أنني لا الاحظ البيت. ما الاحظه كان ما تبقى منه.
لا يزال المرء عرضة للتفكير في البيت كبيت، حتى لو لم يكن هناك الكثير بشكل ملحوظ مما بقى منه  .
وقد نجا هذا بشكل جيد إلى حد ما، افكر في ذلك. الثلوج القادمة ستكون الثالثة وانا هنا، كما أعتقد .
ربما يجب أن اضع قائمة بالاماكن الآخرى التى كنت فيها ، ولوكان ذلك من أجل  الثقيف الذاتي    . أعني بداية مع ذلك الدور العلوي القديم في سوهو، قبل المتروبوليتان. ثم رحلاتي .
على الرغم من أني دون شك فقدت مسار قدر  كبير من ذلك حتى الآن، ايضاً .
أتذكر جلوسي صباح احدالايام في سيارة اقود على الجهة اليمنى واشاهد طريق ستراتفورد أون ايفون يمتلىء بالثلوج، التي كانت نادرة بكل تأكيد .
حسنا، وفي نفس ذلك الشتاء كادت تصدمني تقريبا سيارة لا يقودها احد ، قدمت منزلقة أسفل تلة بالقرب هامبستيد هيث .
كان هناك تفسير للسيارة القادمة من التلة دون اي شخص يقودها .
التفسير كان التلة، واضحاً .
تلك السيارة، أيضا، كانت لها طريق يمنى . على الرغم من أن هذا ربما ليست له علاقة خاصة بأي شيء .
وفي كلتا الحالتين ربما كنت قد ارتكبت خطأ، في وقت سابق، عندما قلت اني تركت رسالة في الشارع تقول أن شخصا ما كان يعيش في المعرض الوطني .
حيث كنت أعيش في لندن كان معرض تيت ، هناك تعرض عدة لوحات لجوزيف مالورد وليام تيرنر .
أنا متأكدة تماما من أنني عشت في تيت .
وهناك تفسير لذلك أيضا. التفسير هو أنه يمكن للمرء أن يرى النهر، من هناك .
وهو يعيش لوحده، يكون المرء عرضة لتفضيل منظر المياه .
لقد اعجبت دائما بتيرنر ايضاً . في الواقع لوحاته الخاصة عن المياه قد تكون جزءا ساهم في اتخاذ قراري .
ذات مرة ،اوثق تيرنر نفسه بصاري سفينة لعدة ساعات، خلال عاصفة هوجاء ، حتى يتمكن من رسم العاصفة لاحقاً .
من الواضح ان ، العاصفة نفسها لم تكن مارغب تيرنر في رسمه. وما كان ينوي رسمه هو محاكاة للعاصفة .
لغة المرء غالبا ما تكون غير دقيقة بذلك النسق، كما تبينت .
في الواقع، قصة تيرنر الذي رُبط إلى الصاري تذكرني بشيء، على الرغم من أنني لا أستطيع أن أتذكر ما الذي تذكرني به  .
ويبدو أيضا أن لا أتذكر أي نوع من النار كنت قد اشعلت في تيت .
في المتحف الوطني الهولندي[1] ، في أمستردام، أزلت لوحة الحراسة الليلية لريمبراندت من إطارها عندما كنت أسعى للدفء هناك أيضا، بالمناسبة .
أنا على يقين من أني كنت أعتزم الوصول إلى مدريد في ذلك الوقت أيضا، لأن هناك لوحة في متحف برادو لروجير فان دير وايدن، وهي النزول عن الصليب، كنت أرغب في رؤيتها مرة أخرى. ولكن لسبب ما، في بوردو، تحولت إلى السيارة التي كانت  متوجهة الى الخلف في الاتجاه الآخر .
ثم مرة ثانية ربما كنت قد عبرت الحدود الإسبانية إلى حد ان وصلت إلى بامبلونا .
حسنا، كثيرا ما فعلت أشياء غير متعمدة في تلك الأيام، كما قلت. ذات مرة ، من أعلى الادراج الإسبانية في روما، ودون سبب ماعدا أني وجدت شاحنة فولكس واجن مليئة بكرات التنس، فتركت المئات والمئات من كرات التنس ترتد واحدة تلو الأخرى إلى أسفل، بكل طريقة ممكنة .
شاهدت كيف أنها ضربت التشوهات الصغيرة أو البقع البالية في الحجر، وكيف كانت تغير اتجاهها، وكنت اخمن إلى أي مدى عبر الساحة في الأسفل سيصل كل واحد منها.
ارتد العديد منها كركلة ركنية وضرب المنزل حيث توفي جون كيتس، في الواقع.
كانت هناك لوحة على المنزل، تشير إلى أن جون كيتس توفي هناك .
اللوحة بالإيطالية، وبطبيعة الحال. كانت تسميه جيوفاني كيتس.
اسم النهر الذي في هيسارليك هو سكاماندر، تذكرت الآن .
في الإلياذة، لهوميروس، يشار إليه كنهر جبّار .
حسنا، ربما كان كذلك، في وقت ما. أشياء كثيرة يمكن أن تتغير، في ثلاثة آلاف سنة .
وحتى مع ذلك، جالساً فوقه ذات مساء على الجدران التي تم حفرها، محدقاً نحو القناة، كنت محقة تقريبا في انه يمكن للمرء أن يرى المشاعل اليونانية، مضاءة على طول الشاطئ .
حسنا، كما قلت من قبل ، ربما لم أسمح لنفسي فعلا بأن تظن ذلك .
ومع ذلك، تبقى بعض الأشياء غير مؤذية ابدا كي نفكر فيها .
في الصباح التالي، عندما ظهر الفجر، كنت مكتفية تماما بأن اعتبره فجراً بأصابع وردية، على سبيل المثال. على الرغم من أن السماء كانت غامضة .
وفي الوقت نفسه استغرقت الوقت للتو لأحرك أمعائي. أنا لا أذهب إلى الكثبان الرملية كي افعل ذلك، ولكني انزل الى المحيط نفسه، حيث يغسل المد .
وانا ذاهبة، توقفت أولاً في الغابة بجانب المنزل لأخذ بعض الأوراق .
وبعدها ذهبت لاجلب المياه من نبعي، والذي ربما كان على بعد مئة خطوة على طول الطريق في الاتجاه المعاكس للشاطئ .
لدي جدول أيضا. حتى لو كان بالكاد كنهر التايمز .
في تيت كنت أحضر مياهي من النهر، ولكن. يمكن للمرء القيام بذلك النوع من الاشياء لفترة طويلة، الآن .
حسنا، يمكن للمرء أن يشرب من أرنو، في فلورنسا، منذ فترة طويلة مثلما كنت أعيش في أوفيزي. أو من السين، عندما كنت أحمل جرة أسفل الرصيف في اللوفر .
في البداية شربت فقط المياه المعبأة في زجاجات، طبعا .
في البداية كانت لدي تجهيزات ، ايضاً . كالمولدات، لأستخدمها مع أجهزة التدفئة الكهربائية .
كان الماء والدفء من الأساسيات، طبعا .
أنا لا أتذكر من جاء أولا، ان صرت بارعة في ابقاء النار مشتعلة ،وتخلصت من أجهزة من ذلك النوع، أو اكتشاف أن أحدا يمكنه أن يشرب أي كمية من الماء لو رغب لمرة ثانية .
ربما براعتي  في اشعال النار أتت أولا. حتى وان كنت قد أحرقت منزلين وسويتهما بالأرض، على مر السنين .
والأكثر حداثة فيهما، كما أشرت، كان حادثاً عارضاً .
السبب في اني أحرقت الأول هو شيء لا أود الخوض عميقا جدا فيه . فعلت ذلك متعمدة تماماً، مع ذلك .
كان في المكسيك، في الصباح بعد أن قمت فيه بزيارة قبر سيمون المسكين .
حسنا، كان المنزل الذي عشنا فيه جميعا. اظن اني بصراحة قد خططت للبقاء فيه، لبعض الوقت .
ما فعلته كان سكب البنزين في جميع أنحاء غرفة سيمون القديمة .
طوال معظم الصباح كنت أستطيع أن أرى الدخان يعلو ويعلو ، من مرآة الرؤية الخلفية .
الآن لدي موقدين هائلين . هنا في هذا البيت بقرب البحر، وأنا أتحدث عنه. وموقد المطبخ كبير البطن العتيق .
لقد كبرت مولعة جدا بالمواقد .
وكان سيمون في السابعة، بالمناسبة .
نمت مجموعة متنوعة من التوت في مكان قريب. و على بعد دقائق من جدولي كانت هناك خضروات مختلفة، في الحقول التي كانت تُزرع يوما ولكنها الان مفرطة النمو العشوائي  طبعا   .
وراء النافذة  حيث أجلس ، كان النسيم يراقص عشرة آلاف ورقة . وضوء الشمس ينكسر خلال الغابة في بقع مشرقة مرقشة .
الزهور كانت تنمو أيضا، بوفرة تامة .
إنه يوم لبعض الموسيقى، في الواقع، على الرغم من أنه لاوسيلة لدي لأحصل عليها  .
لسنوات، حيثما حللت ، كنت عادة ما اتدبر امر العزف. ولكن عندما بدأت التخلص من الأجهزة اضطررت للتخلي عن الموسيقى ايضاً .
الأمتعة، في الأساس، هي ما تخلصت منه. حسنا، وكذلك الأشياء .
مرارا وتكرارا يحدث ان يسمع المرء بعض الموسيقى في رأسه ،بطريقة ما.
حسنا، جزء من هنا أو هناك ، على أي حال. أنطونيو فيفالدي. لنقل  أو جوان بيز، تغني  .
منذ وقت ليس ببعيد سمعت مقطعاً من
 Les Troyens ، لبيرليوز .
عندما أقول سمعت، أقول ذلك فقط بطريقة التحدث، طبعا .
ولايزال، ربما هناك أمتعة بعد كل شيء، برغم كل ما اعتقدته من أني قد تركتها ورائي .
من نوع. تلك الأمتعة التي تبقى في رأس المرء، وهذا يعني بقايا أيا كان ما عرفه في اي وقت مضى .
مثل أعياد ميلاد الناس كبابلو بيكاسو أو جاكسون بولوك، مثلا، و التي انا مقتنعة أنني لا ازال اعيد ذكرها كلما رغبت .
أو أرقام الهواتف، من كل تلك السنوات الماضية .
هناك هاتف هنا، في الحقيقة، ليس أكثر من ثلاث أو أربع خطوات الى الوراء حيث أجلس.
وبالطبع كنت أتحدث عن أرقام الهواتف التي تعمل، باي طريقة .
كما ان هناك هاتف ثان في الطابق العلوي، بالقرب من مقعد النافذة التي من خلالها أشاهد الشمس وهي تغرب،في معظم الأمسيات .
الوسائد، مثل كل شيء هنا على الشاطئ، عفنة . وحتى في أكثر الأيام سخونة، يستشعر  المرء الرطوبة .
الكتب  تتخرب منها  .
الكتب هي أكثر الأمتعة التي تخلصت منها ، بالمناسبة. حتى لو كان مايزال هناك الكثير منها في هذا البيت، والتي كانت هنا عندما وصلت إليه  .
وأود أن أشير إلى أن هناك ثمان غرف في هذا المنزل، على الرغم من أنني لا استخدم سوى اثنتين أو ثلاثة .
في الواقع كنت أقرأ، في بعض الأحيان، على مر السنين. خاصة عندما اكون غاضبة ، وقد قرأت الكثير حقاً  .
ذات شتاء ، قرأت تقريبا كل المسرحيات اليونانية القديمة. في واقع الأمر قرأتها بصوت عال. وخلال ، انتهائي من الجانب المعاكس لكل صفحة كنت امزقها عن الكتاب وإسقطها في النار .
لقد حولت إيسكيلوس و سوفوكليس و يوريبيديس، إلى دخان .
بحسب طريقة الكلام، يمكن للمرء أن يفكر في ذلك على هذا النحو  .
اما بطريقة مختلفة في الكلام، يمكن للمرء أن يعلن أنهم كانوا هيلين و كليتمنسترا و إلكترا، من فعلت بهم ذلك .
بحياتي ليس لدي أي فكرة لماذا فعلت ذلك .
لو كنت قد فهمت لماذا كنت أفعل ذلك، لما كنت غاضبة دون شك .
لو لم أكن غاضبة، بلا شك لم أكن لأفعل ذلك على الإطلاق .
أنا أقل إيجابية من أن الجملتين الأخيرتين قد تدلان على أي معنى معين .
في كلتا الحالتين لا أتذكر أين كان، بالضبط، أني قرأت المسرحيات وأحرقت الصفحات .
ربما كان ذلك بعد أن ذهبت إلى طروادة القديمة، والتي قد تكون هي من وضع في اعتباري البدء بالمسرحيات .
أو أن قراءة المسرحيات هي من وضع  في اعتباري الذهاب الى طروادة القديمة ؟
لقد استمرئت، ذلك الجنون .





[1] Rijksmuseum

المشاركات الشائعة

مشاركة مميزة

  كافكا - حكم تسوراو 1 المسار الصحيح يكون على طول حبل، ليس حبلاً معلقا في الهواء، بل حبلاً ممدداً على الأرض. وهو يشبه سلك ا...