الخميس، 16 أغسطس 2018


يوميات ورسائل مختارة ميخائيل بولغاكوف





  17 نوفمبر 1921
إلى فارفارا ميخايلوفنا فوسكريسنسكايا *
  
ماما العزيزة ،

كيف حالك؟ وهل انت بصحة جيدة؟

أنا آسف حقاً، أني لا أستطيع في رسالة قصيرة أن أخبرك بالتفصيل كيف تبدو موسكو حقاً هذه الأيام. يكفي القول بأن الناس يخوضون صراعاً مجنوناً من أجل البقاء ويضطرون للتكيف مع الظروف الجديدة. اعتقد أني تمكنت منذ وصولي من تحقيق كل ما يمكن تحقيقه في الأسابيع الستة التي كنت فيها هنا. لدي وظيفة - ليست بالشيء الهام ، أعلم ذلك ، ولكن عليكِ أن تكوني قادرة على كسب لقمة العيش. وهذا شيء نجحت في القيام به، صدقي أو لا تصدقي . بطريقة بائسة حتى الآن، هذا صحيح، ولكني و تاسكا نتدبر أمر الطعام وتخزين البطاطا. لقد أصلحت حذاءها وبدأنا بشراء الخشب للمدفئة، وما إلى ذلك.
العمل محموم، وليس سهلاً على الإطلاق. من الصباح وحتى المساء ، يوماً بعد يوم، ودون انقطاع.
لقد أعيد تنظيم المؤسسات السوفياتية تماماً، بتسريح العمال. وشمل ذلك شركتي الخاصة التي من الواضح أنها لن تدوم طويلاً. لذا سأكون قريباً عاطلاً عن العمل. ولكن ليس هذا مهماً: لقد اتخذت خطوات، قبل فوات الأوان، للتحول إلى العمل الخاص. سوف تكونين بلا شك على علم بالفعل أن هذا هو السبيل الوحيد للعيش في موسكو - إما ذلك وإما أن يؤسس المرء لنفسه عملاً تجارياً.

أحاول أن أجد لنفسي مكاناً في صناعة الكتان. وما هو أكثر من ذلك، لقد مُنحت يوم أمس عملاً كصحفي في صحيفة صناعية بدأت للتو. أنا لا أعرف حتى الآن بأي شروط. إنها مؤسسة تجارية حقيقية، وهم يوظفونني لفترة تجريبية. وكان علي بالأمس أن أخضع لإمتحان، إن جاز التعبير. ينبغي غداً أن يعطوني مُقدّماً نصف مليون. وهذا يعني أنهم يُثمّنونني عالياً ، ومن الممكن أني سأكون المسؤول عن قسم الأخبار. وهذا ما ينتظرني : الكتان، الصحيفة الصناعية و (بشكل عارض ) عملي الخاص. البحث عن عمل من هذا النوع هو بالضبط ما كان في ذهني عندما كنت في كييف. وأي نوع آخر من العمل سيكون مستحيلاً. فهو يعني، في أحسن الأحوال، أننا سنجوع.

 أعرف حشداً من الناس هنا – صحفيين و مسرحيين أو ببساطة رجال أعمال. وهذا يعني الكثير في موسكو اليوم، التي تتغير نحو اسلوب جديد للحياة، شيئاً لم تشهده منذ زمن - التنافس المجنون، يتسابق الجميع الى تقديم المبادرة وما الى ذلك. عليكِ أن تعيشي هكذا، وإلا فستموتين . وأنا لستُ راغباً في الموت.

 تاسكا[1] المسكينة تتخبط محاولة طحن حبوب الجاودار برأس الفأس وإعداد الطعام من جميع أنواع البقايا . لكنها رائعة ! في كلمة واحدة، نحن على حد سواء نتخبط معاً، ونضرب رؤوسنا في الثلج مثل الأسماك. طالما لدينا فقط سقف فوق رؤوسنا. غرفة أندريه[2] منقذة للحياة ، عندما تأتي ناديا[3]،سيصبح الأمر أكثر صعوبة بطبيعة الحال. ولكني أُخرج ذلك من ذهني الآن وأحاول عدم التفكير فيه ، فلدي ما يكفي للقلق على كل يوم بيومه .

في موسكو مئات الآلاف والملايين فقط ما تستحق أن تعد شيئاً. الرطل من الخبز الأسود يكلف 4,600 روبل، و الرطل من الأبيض 14,000، . والأسعار تتزايد كل الوقت ! المحال التجارية مليئة بالسلع، و لا يمكنكِ تحمل سعر أي شيء! المسارح مليئة، وفيما كنت أسير ماراً على البولشوي في عملٍ يوم أمس (الذهاب الى أي مكان دون عمل هو شيء بعيد المنال في الوقت الحاضر!) كانت الفتيات يبعن التذاكر بــ 75 و 100 و 150 ألف روبل لكلٍ منها ! . يوجد في موسكو كل شيء: الأحذية، القماش، اللحوم، سمك الحفش، المربيات، المشهيات - كل شيء! المقاهي تُفتح، وتنتشر كالفطر. وفي كل مكان، مئات الآلاف من الروبلات ! مئات الآلاف! كموجة هائلة من المضاربة.

لدي حلم واحد فقط: أن أعبر فصل الشتاء، أن أنجو من ديسمبر، الذي سيكون الشهر الأكثر صعوبة، كما أحسب. لا أستطيع التعبير عن مدى فائدة تاسكا بالنسبة لي. مع المسافات الهائلة التي يجب أن أغطيها كل يوم راكضاً (حرفياً ) حول موسكو، هي توفر لي كمية هائلة من الطاقة والقوة، وتغذيني وتترك لي أن افعل فقط تلك الأشياء التي لا تستطيع أن تفعلها بنفسها : تقطيع الخشب في الأمسيات و تحميل البطاطا الى الخارج في الصباحات .
نحن نذرع معاً أنحاء موسكو بمعاطفنا القصيرة البائسة. أمشي بجانبها و جانب معطفي أمام الآخر (الجانب الأيسر يتيح المزيد من الهواء البارد لسبب ما). أحلم بأن أجلب لتاتيانا شيئاً دافئاً لقدميها. ليس لديها سوى حذائها الصغير . ولكن ربما ستكون الأمور على ما يرام ! فقط طالما لدينا غرفة و نحن بصحة جيدة !.
  أكتب لك كل هذا لمجرد أن أبين لك الظروف التي علي فيها تحقيق الفكرة التي اهجس بها : أن أنشيء وفي غضون ثلاث سنوات الوضع الطبيعي من شقة وملابس ومواد غذائية وكتب. هل سأكون ناجحاً أم لا ، سيكون علينا أن نتظر لنرى.
أنا لن أقول لك، لأنك لن تصدقني، كم نعيش مقتصدين أنا و تاسكا . نحن حريصون على كل قطعة صغيرة من الحطب.
هذه هي مدرسة الحياة القاسية .
في المساء أعمل بصورة غير منتظمة على كتابي مذكرات طبيب في الارياف[4] ، الذي قد يتحول إلى مجلد كبير جداً .أعمل أيضاً على قصتي المرض[5] . ولكن ليس لدي الوقت، ليس لدي الوقت! هذا ما هو مؤلم حقاً !

ملاحظة : هل يمكنك تخمين ماهي الذكرى الأكثر امتاعاً لي مؤخراً ؟، الاستلقاء على أريكتك وشرب الشاي مع اللفائف الفرنسية. أود أن افعل الكثير لأكون قادراً على القيام بذلك مرة أخرى، ولو لبضعة أيام، أشرب الشاي و لا أفكر بشيء. أنا متعب جداً فقط .

1 ديسمبر
إلى ناديا زيمسكايا

  أنا رئيس قسم الأخبار حالياً في صحيفة رائد الأعمال التجارية والصناعية، وإذا فقدت اعصابي فعليكِ أن تعرفي لماذا. أيمكنكِ تخيل ما يعنيه إنتاج صحيفة مستقلة ؟! هناك مقال يجب أن يكتبه بوريس[6] في العدد الثاني، عن صناعة الطيران، عن السعة المكعبة والاحتياطيات وذلك النوع من الأشياء . أكاد أجن تماماً. ماذا عن إمدادات الصحف؟ ماذا لو لم نحصل على أي إعلان؟ ثم هناك الأخبار! والرقابة ! أنا في نقطة غلياني طوال اليوم.

لقد كتبت نصاً عن يوجين أونيجين[7] لمجلة الشاشة الخاصة بالمسرح .و لم يتم قبوله. والسبب: أنه مناسب لمجلة أدبية، وليس لمجلة مسرح. وكتبت مقالاً أدبياً مخصصاً لنيكراسوف[8] بعنوان "عروس الثأر". قبٍله مكتب المنشورات الفنية للجنة التعليم السياسي الرئيسية [التابعة لمفوضية التنوير]. ودفعوا لي 100. تم إرساله إلى صحيفة الرائد الفني ، الذي من المقرر أن تنشره تحت رعاية وزارة البيئة والتعليم. أنا أعلم بالفعل أن المجلة لن تصدر، أو أن شخصاً ما سيظهرفي اللحظة الأخيرة ولا تعجبه "العروس" ... وهلم جراً. يا لها من فوضى.

أرجوا ألا تتفاجئي بمثل هذه الرسالة غير المتماسكة بشكل شنيع – ليس ذلك متعمداً، بل فقط لأني بَليت حرفياً. لقد ضجرت من كل شيء. الكتابة غير واردة .والوقت الوحيد الذي أكون فيه سعيداً هو عندما تسكب لي تاسكا بعض الشاي الساخن. نحن الآن نأكل أفضل بما لايقاس مع ما كنا عليه في البداية. كنت أريد أن أكتب لك رسالة طويلة أصف فيها موسكو، ولكن هذا ما حصلت عليه بدلاً من ذلك.


[1] تاتيانا نيكولايفنا لابا (1892-1982)، زوجة بولغاكوف الأولى، من 1913 إلى 1924.
[2] أندريه ميخائيلوفيتش زيمسكي (1892-1946)، صهر ميخائيل.
[3] ناديا أفاناسيفنا زيمسكايا (1893-1971)، شقيقة بولغاكوف، المتزوجة من أندريه.
[4]  هي مجموعة من المذكرات تسمى ايضاً مذكرات طبيب شاب  ،تمثل قصصا من السيرة الذاتية تتعلق بعمل بولغاكوف كطبيب في الريف. وقد نشرت في المجلات الطبية بين عامي 1925 و1927.
[5] نسخة مهملة من قصة السيرة الذاتية المبكرة مورفين.
[6] بوريس ميخائيلوفيتش زيمسكي (1891-1941)، شقيق أندريه زوجها.
[7] رواية شعرية  (1833) كتبها الكسندر بوشكين (1799-1837)
[8] نيكولاي أليكسييفيش نيكراسوف (1821-1878)، الشاعر والصحفي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة

مشاركة مميزة

  كافكا - حكم تسوراو 1 المسار الصحيح يكون على طول حبل، ليس حبلاً معلقا في الهواء، بل حبلاً ممدداً على الأرض. وهو يشبه سلك ا...