الجمعة، 3 نوفمبر 2017

قسم التأمل - جيني اوفيل

قسم التأمل (رواية) - جيني اوفيل.


1


              للظباء القدرة على الرؤية لعشرة اضعاف، قلتَ لي. كانت تلك البداية أو قريبا منها. وذلك يعني أنها تستطيع في ليلة واضحة رؤية حلقات زحل.
              كانت لا تزال امامنا أشهر قبل أن نخبر بعضنا كل قصصنا. وحتى ذلك الحين بدا بعضها صغير جدا ليهمنا. فلماذا يعود لي الآن؟ الآن، عندما أشعر بالضجر من كل شيء.
              الذكريات مجهرية. جسيمات صغيرة  تهب معا او لوحدها . الناس الصغار، كما دعاهم اديسون. الكيانات . كانت له نظريته عن المكان الذي يأتون منه، و هي انهم من الفضاء الخارجي.
              في المرة الأولى التي سافرت فيها لوحدي، قصدت مطعما وطلبت شريحة لحم. ولكنها عندما جاءت كانت مجرد قطعة من اللحم النيء مقطعة إلى قطع. حاولت أكلها، لكنها كانت مدممة جدا. رفض حلقي ابتلاعها. وأخيرا، بصقتها في منديل. كان لا يزال هناك قدر كبير منها على صحني. كنت أخشى ان يلاحظ النادل أني لم أكل ويضحك أو يصرخ في وجهي. ولفترة طويلة، جلست هناك، انظر اليها. ثم أخذتُ لفة، وجوفتها، ودسستُ اللحم بداخلها. كانت عندي محفظة صغيرة جدا وفكرت اني  يمكن أن اُدخل اللفة فيها دون أن يراني احد. دفعت الفاتورة، و مشيت، متوقعة أن اُوقف ، ولكن لم يُوقفني احد .
              قضيت فترة ما بعد الظهر في منتزه المدينة، متظاهرة بقراءة هوراس. عند الغسق، تدفق الناس من المترو إلى الشارع. في باريس، يُطلب حتى من مترو الانفاق ان يكون جميلا. يغيرون سماواتهم، وليس اروحهم ، التي تفرّ عبر البحر.
              كان هناك صبي كندي يأكل دقيق الشوفان فقط. وصبي فرنسي طلب ان يفحص أسناني. وصبي انجليزي جاء من طابور الكهنة. وصبي هولندي يبيع مُعينات السمع.
              التقيتُ استرالياً قال انه يحب السفر وحده. تحدث عن وظيفته ونحن نشرب قرب البحر. عندما دخلت طالبة ، ومرت امامه، قال لي اللعنة انها جميلة. اومأت براسي، و مشيت، وعلى الرغم من أنني لم ادرّس أي شخص اي شيء. سألته ماذا تدرّس ؟،. التزلج بعجلات الباتيناج، أوضح لي .
              كان ذلك في الصيف الذي أمطر وأمطر. أتذكر رائحة الكلاب الحزينة التي فاحت من سترتي وحذائي يخوض الماء بجنون. في كل مدينة، نفس المشهد.  صبي يخطو إلى الشارع ويفتح مظلة لفتاة ليبقيها جافة عند مدخل الباب .
              ليلة أخرى. في شقتي القديمة في بروكلين. كان الوقت متأخرا، ولكني بالطبع، لم أستطع النوم. فوقي، كان مهووسوا سرعة يفككون بمرح شيئا ما . يتركونه على النافذة. شعرتُ ببرد مفاجئ فسحبتُ اللحاف على رأسي. تلك هي الطريقة التي يُخرجون بها الخيول من النار، كما اتذكر. عندما لايمكنها الرؤية، فلن تصاب بالذعر. حاولت معرفة ما إذا شعرتُ بالهدوء اكثر واللحاف  على رأسي. كلا لم أكن كذلك ،كانت الاجابة.



2

              حصلتُ على وظيفة لتحري الحقائق في مجلة علمية . الحقائق الممتعة، كما يسمونها . الألياف المتصلة في الدماغ البشري، اذا مُدّت، من شأنها أن تلفّ حول الأرض أربعين مرة.  هذا رهيب، كتبتُ في الهامش، لكنهم  اخضعوها لذلك على أي حال.
               أحببتُ شقتي لأن جميع نوافذها كانت على مستوى الشارع. في الصيف، يمكنني أن أرى أحذية الناس، وفي فصل الشتاء،الثلوج. ذات مرة ، وأنا اضجع في السرير، ظهرت شمس حمراء ساطعة من النافذة. ارتدت من جانب إلى آخر، ثم صارت كرة.
              الحياة تساوي البنية بالإضافة إلى النشاط.
              تشير الدراسات إلى أن القراءة تضع طلبا هائلا على الجهاز العصبي. وزعمت إحدى مجلات الطب النفسي أن القبائل الأفريقية احتاجت إلى مزيد من النوم بعد أن تم تعليمها القراءة. كان الفرنسيون مؤمنين كبار بمثل هذه النظريات. وخلال الحرب العالمية الثانية، ذهبت أكبر حصص الإعاشة إلى أولئك الذين يعملون في المجال البدني الشاق ومن تنطوي أعمالهم على القراءة والكتابة.
              لسنوات، ابقيتُ ملاحظة مكتوبة فوق مكتبي. العمل وليس الحب! كانت تقول . بدت نوعا أكثر رسوخا من السعادة.
              عثرتُ على كتاب بعنوان الازدهار وليس البقاء داخل صندوق في الشارع. وقفتُ هناك، وانا اقلب صفحاته ، غير راغبة في التورط.
         ربما تعتقد أن الألم النفسي الذي تعاني منه هو حالة دائمة، ولكنه بالنسبة للغالبية العظمى من الناس ليس سوى حالة مؤقتة.
              (ولكن ماذا لو كنتُ حالة خاصة ؟ ماذا لو كنتُ من الأقلية؟)
              لدي أفكار عن نفسي. غير مختبرة إلى حد كبير. عندما كنتُ طفلة، كنت أحب أن أكتب اسمي بحروف عملاقة من العصي.
              ما قاله كوليردج : لو لم اخدع  نفسي كثيرا ، لما حررت تماما مفاهيم الزمان والمكان...ولكني على ثقة بأنني على وشك أن أفعل ماهو أكثر - أي أني سأكون قادرا على تطوير كل الحواس الخمسة...وفي هذا التطوير حل لسيرورة الحياة والوعي.
              كانت خطتي ألا اتزوج أبدا. كنتُ اخطط لاصبح وحش فن بدلا من ذلك. النساء تقريبا لا يصبحن وحوش فن لأن وحوش الفن لايشغلون انفسهم سوى بالفن، ولا يحفلون ابدا بالأشياء الدنيوية. لم يكن نابوكوف حتى ليثني مظلته. وكانت فيرا تلعق له الطوابع.
              انها خطة جريئة هذا ما قاله صديقي الفيلسوف. ولكن في يوم ميلادي التاسع والعشرين فتحت كتابي. إذا لم اخدع  نفسي كثيرا...
              ذهبتُ إلى حفلة وشربتُ حتى ثملت.
              هل الحيوانات وحيدة؟
              الحيوانات الأخرى، أعني.
              ولم يمض وقت طويل على ذلك، حتى ظهر صديق سابق على عتبة بابي. يبدو أنه قدم على طول الطريق من سان فرانسيسكو فقط ليشرب القهوة. في الطريق إلى العشاء، اعتذر عن أنه لم يكن يحبني حقا. وأعرب عن أمله في إجراء تعديلات. "انتظر"، قلت له . "هل تقوم بخطوات؟"
              في تلك الليلة على شاشة التلفزيون، رأيت الوشم الذي تمنيت طوال حياتي نيله. إن لم تكن تعرف المعاناة، فاحببني. لكن قاتلا روسيا غلبني عليه.
              بالطبع، فكرت في الصبي السكران في نيو اورليانز، ذلك الذي أحببته أكثر . كل ليلة في حانة البحارة القديمة، كنت اقشر الملصقات عن زجاجاته واحاول إغراءه. لكنه لن يأتي. ليس حتى ينتشر الضوء عبر النافذة.
              كان جميلا جدا واعتدت على مشاهدته نائماً . إذا كان لي أن ألخص ما فعله بي، لوددت أن أقول أنه كان هذا: جعلني أغني معه جميع الأغاني السيئة على الراديو. في كلا الحالين عندما كان يحبني وعندما لم يعد كذلك.
              في تلك الأسابيع الاخيرة ، قدنا السيارة دون حديث، في محاولة منا لتجاوز الحرارة، الكل لوحده في الحلم الذي صارت عليه المدينة. كنت أخشى الكلام، او حتى ان ألمس ذراعه . أتذكُر هذه الإشارة، هذه الشجرة، هذا الشارع المكسور.أتذكر أنه من الممكن أن تشعر بهذه الطريقة. كانت هناك عشرون يوما في التقويم، ثم خمسة عشر، ثم عشرة، ثم اليوم الذي عبأت فيه سيارتي وغادرت. قدتُ السيارة على طول ولايتين، وانا انشج، الحرارة مثل يد فوق صدري. ولكني لم أتذكر. لم أكن أتذكر.


3

               سافر رجل إلى جميع أنحاء العالم محاولا العثور على الأماكن التي يمكنه الوقوف فيها ساكناً و ان لا يسمع أي صوت لإنسان. فمن المستحيل الشعور بالسكينة في المدن، كما كان يعتقد، لأننا نادرا ما نسمع غناء طيور فيها . آذاننا تطورت لتكون أنظمة إنذار. نحن في حالة تأهب قصوى في الأماكن التي لا تغني فيها الطيور. ان تعيش في المدينة هو أن تظل  جافلاً إلى الأبد .
              يقول البوذيون أن هناك 121 حالة للوعي. من بينها، ثلاثة فقط تنطوي على البؤس أو المعاناة. معظمنا يقضي وقته متنقلاً جيئة وذهاباً بين تلك الثلاثة.
              طائر القيق الأزرق[1] يقضي كل يوم جمعة مع الشيطان، قالت لي السيدة العجوز في المنتزه.
              "عليكِ الخروج من هذ المدينة الغبية. قالت شقيقتي: "امنحي نفسك بعض الهواء النقي". قبل أربع سنوات، غادرتني هي وزوجها. انتقلا إلى ولاية بنسلفانيا إلى منزل قديم متداعٍ على نهر ديلاوير. في الربيع الماضي، جاءت لزيارتي مع أطفالها. ذهبنا إلى المنتزه.و إلى حديقة الحيوان. و القبة الفلكية. ولكنهم بقوا يكرهونها . لماذا يصرخ الجميع هنا؟
              كانت شقة الفيلسوف هي المكان الأكثر سلاما الذي عرفته. مضاءة جيدا وبدت بارزة فوق الماء. قضينا أيام الأحاد هناك نتناول الفطائر والبيض. كان يعمل مساعداً وقتها ويقوم بعمل في وقت متأخر من الليل في محطة إذاعية. "عليكِ ان تري هذا الرجل الذي أعمل معه. انه يصنع مشاهد صوتية للمدينة. "نظرت إلى الحمام خارج نافذته. "ماذا يعني ذلك؟" قلتُ.
              أعطاني قرصاً مدمجاً لاخذه معي الى المنزل. على الغلاف كان دفتر هاتف أصفر قديم، افسده المطر. أغلقت عيني واستمعت إليه. من هذا الشخص؟ تساءلت.


4

              أعطيتك الشيء المفضل لدي من الحي الصيني، دسستُه بشكل ثمل في يدك. كنا في مطبخي تلك الليلة الأولى. قناع شاش جميل، تقول الرزمة.
              في الصباح التالي ذهبتُ إلى شقة الفيلسوف. "أوه لا، ماذا فعلتْ؟" قلتُ. صنع لي إفطارا واخبرني عن موعده الغرامي. "أين ترى نفسكَ بعد خمس سنوات؟" كانت قد سألته. "ماذا عن عشرة؟ ماذا عن خمسة عشر عاما؟ " وعندما اوصلها الى منزلها، صارت ثلاثين عاما. قلت له بدا الأمر وكأن بطة ودباً يذهبان الى موعد. اعتبر الفيلسوف هذا. "أشبه ببطة ومارتيني".كما قال.
              اتصلتَ بي. واتصلتُ بك. وقلنا تعال الى هنا، تعال الى هنا .
              عرفتُ أنكَ لاتخاف الطقس. أردتَ أن تجوب جميع أنحاء المدينة، وليأتي المطر ليأتي الثلج ليأتي الصقيع، وانتَ تسجل الأشياء. اشتريتُ معطفا أكثر دفئا به العديد من الجيوب الخفية. ووضعتَ يديك في جميعها .
              استمعتُ لكَ على الراديو في منتصف الليل. مرة اذعتَ تسجيلا لذراتٍ تتحطم. وفي وقت اخر رياحاً تكنس الأوراق. التسجيلات الميدانية، كنت تسميها . كان البرد مُجمِداً في شقتي وكنتُ استمع إلى عرضكَ في السرير وقد سحبتُ الاغطية الى ذقني. ارتديتُ قبعة وقفازات وجوارب ثقيلة من الصوف مصنوعة للرجال. في احدى الليالي اذعتَ المقطوعة الذي صنعتها لأجلي. صوت شاحنة الآيس كريم يعلو عليه صوت النوارس في جزيرة كوني و عجلة العجائب  تدور .
              من الغباء أن يكون هناك تلسكوب في المدينة، ولكننا اشترينا واحدا على أي حال.
              في تلك السنة لم أسافر لوحدي .سوف ألتقيكِ هناك، قلتَ لي . ولكن الوقت كان متأخرا عندما وجدنا بعضنا في محطة القطار. كنتَ قد حلقتَ بعشرة دولارات. وكنتُ أكثر بدانة مما كنتهُ عندما رحلت. بدا من الممكن أننا سافرنا عبر العالم عن طريق الخطأ. حاولنا حجز الحكم.
              لم نفهم أين كنا ذاهبين عندما أخذنا القارب إلى كابري. وكان ذلك في مطلع نيسان / أبريل. المطر الخفيف البارد يغشى البحر. أخذنا سكة الحديد المعلقة من الرصيف ووجدنا أنفسنا السياح الوحيدين . قدمتم مبكرين، قال المحصل مستهجناً . كانت الشوارع تفوح برائحة كالخزامى، ولوقت طويل لم يلحظ أحد منا أنه لم تكن هناك أية سيارات. بقينا في فندق رخيص ،المنظر من نافذته أكثر جمالا من أي شيء رأيته من قبل. كانت المياه زرقاء شريرة. برز جرف منحدر صخري خارجاً من البحر ، رغبتُ في البكاء لأنني كنت متأكدة من أنني لن أكون ابداً في مثل هذا المكان مرة أخرى. دعينا نستكشفه ، قلتَ لي ، وهو ما تقوله دائما عندما ابدو بتلك الطريقة. مشينا على طول حافة الجرف حتى وصلنا إلى محطة للحافلات. هناك انتظرنا، ممسكين بايدينا معا، دون كلام. كنت أفكر في ما سيكون عليه الامر أن اعيش في مكان ما جميل جدا. هل سيصلح ذلك عقلي؟. مرت الحافلة. تم توظيف ثلاثة أشخاص لتشغيلها: واحد لبيع التذاكر، وواحد لأخذها، واخر يقود. هذا يجعلنا سعداء. أخذتنا إلى الجانب البعيد من الجزيرة، حيث بدا الناس مستغربين أكثر لوجودنا. داخل متجرٍ، رأيتُ العلكة المسماة بروكلين وقمتَ بشرائها لي.

5

              مررنا على ديوراما[2] الظباء. "10 أضعاف" قلتُ، ولكنك لم تنظر في وجهي. " ما الأمر؟" سألتكَ. لا شيئ. لا شيئ. ولكنكَ، في وقت لاحق، في غرفة الأحجار الكريمة، ركعتَ على احدى ركبتيك . وكل شيء من حولنا يبرق .
              نصيحة من هسيود: اختر من الفتيات من تعيش بالقرب منك وتحقق من كل التفاصيل، بحيث لاتكون عروسك نكتة الجيران . ليس هناك ما هو أفضل للإنسان من زوجة صالحة، وليس هناك رعب يضارع تلك السيئة .
              بعدها ، نزلنا إلى الغرفة المقترضة، وسقطنا على السرير المقترض. خارجاً، كان كل شخص قد أحبنا ينتظر. أخذتَ يدي، وقبلتها قائلا: "ماذا فعلنا؟ ماذا فعلنا بحق الجحيم ؟ "
              عندما التقينا لأول مرة، كنتُ اعاني من سعال مستمر. سعال المدخنين، على الرغم من أني لم ادخن ابداً . تنقلتُ من طبيب إلى طبيب، ولكن لا أحد استطاع ان يعالجه ابداً . في تلك الأيام الأولى، بذلتُ قدرا كبيرا من الجهد محاولة عدم السعال كثيرا. كنتُ استلقي مستيقظة بجانبك في الليل محاولة قصارى جهدي كي لا اسعل . كان اظن بأنني ربما أصبت بالسل. هنا يرقد شخص اسمه مرسوم في الماء، فكرت مسرورة . ولكن لا، لم يكن ذلك كذلك. بعد أن تزوجنا، هرب السعال بعيدا. فماذا كان ، أتساءل؟
              الشعور بالوحدة؟
              مضجعة في السرير، وأنت تحضن جمجمتي كما لو كانت فيها بقعة لينة تحتاج إلى أن تكون محمية. ابقي بقربي، كنت تقول. لماذا أنت بعيدة هناك؟.



[1] jay  طائر من فصيلة الغراب.
[2] نموذج يمثل مشهدا بأشكال ثلاثية الأبعاد، سواء في معرض مصغر أو في متحف كبير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة

مشاركة مميزة

  كافكا - حكم تسوراو 1 المسار الصحيح يكون على طول حبل، ليس حبلاً معلقا في الهواء، بل حبلاً ممدداً على الأرض. وهو يشبه سلك ا...