الأربعاء، 17 مايو 2017

من رواية انطون فولدوين - "مابعد الغرابة في 10 دروس.الدرس 11"





              أمضى لوتز باسمان أيامه الأخيرة كما نفعل جميعا ، بين الحياة والموت. الرائحة العفنة الراكدة في الزنزانة، لم تأتي من شاغلها، بل من الخارج. كانت مواسير بالوعات المدينة تختمر، وكانت الأرصفة في الميناء تطلق انبعاثاً  زنخاً ، كانت الأسواق المغطاة نتنة بشكل رهيب، كما تكون غالباً  في فصل الربيع عندما تبدأ  المياه ودرجة الحرارة في الارتفاع. لم ينخفض الزئبق في موازين الحرارة ​​أبدا عن 34 أو 35 درجة مئوية، وكان دائما ما يتراجع عن انخفاضه الليلي ليفسح المجال أمام ترمُّد جائر . ملائط من الفطر انتشرت على كل جدار. في الساعات التي تسبق الفجر،ازدادت سطوة الظلمة في أعماق الرئتين، تحت السرير، وتحت الأظافر. الغيوم تتفجّر الى شلالات  لأدنى ذريعة. ضجيج العاصفة سكن الجميع. منذ أن انتاب باسمان الشعور بعدم الارتياح، لم يتوقف المطر عن صخبه أمام واجهة السجن، مؤثثا الصمت بصوت الرصاص. فتدفق على السطح الخارجي، وعبر فوق حافة النافذة، ورسم بشكل كالح خطوط الصدأ تحت القضبان، على لوحة الإعلانات حيث عمّد بعض الحراس "مجلس النقابة" والتي اشبهت تكعيبا قديما جدا أو كولاجاً مستقبليا، كثيفا جدا ، ومتلاشى تماما . الماء يتعرج بين الصور ومقاطع من الصحف ثبتها بسمان هناك، والتي سندت إقامته في  هذا القاطع ذو الحراسة المشددة ، فيما بيننا: كانت هذه الرحلة الساكنة مستمرة منذ سبع وعشرين عاماً،  بطول سبعة وعشرين عاما ، طويلة، أطول من السنوات الطويلة. ثم، التقى السائل القذر تواً مع شريط اسود رقيق يشق طريقه الى الجزء السفلي من الجدار، وبذا اختلط مع الرشح المتسرب من السباكة، ربما في أنبوب دفق المرحاض. لا شك انه هناك، نعم، في هذا الأنبوب، أو في أنبوب من نفس النوع. على مدى عدة أشهر، كانت الرطوبة قد اخترقت الاسمنت، فتوسع تدريجيا. وهكذا، عندما ينخفض الضغط الجوي، تفوح الرائحة الكريهة. وهكذا هي هذه الموجات التي ضوّعت المكان بشدة، على غرار عطن جثة في مسيرها نحو الفناء . كانت الإدارة تنتظر وفاة باسمان قبل القيام بأي تجديدات. وكان الحراس قد أعلموا هذا السجين بالصراحة المنفتحة العهودة بين الاجلاف من ذوي القدمين ، وبدون مخاتلة، لأنهم في نفاد صبرهم لرؤية نهاية التاريخ لم يكونوا ليخدعوا احداً أمامه وهم يتداولون  حتفه . باسمان نفسه لم يكن ينتظر شيئا. واجه بورتريهاتنا التالفة وجلس هناك يراقبها. كان يفكر في الصور المسامية، غير المقروءة تقريبا، الصور القديمة لأصدقائه، رجالا ونساء، جميعم موتى، تطلع الى الخلف نحو متاعب من يدري ما هي، وفي الوقت نفسه،  نحو حقيقة أنه عاش بشكل رائع بصحبتهم ، عندما كانوا كلهم احرارا ومشرقين، في ذلك الوقت الذي كنا فيه جميعنا، من أولنا إلى آخرنا، شيئا آخر غير هذا . ولكن ذلك ليس مهما. لقد قلت "وجوهنا"، و بيننا "نحن"، وكلنا "نحن". هذا نهج الكذب الأدبي، والذي هنا ، يتلاعب بحقيقة مخبأة  في منابع النص، بدون كذبة تُدرج في الواقع الحقيقي، في أماكن أخرى بدلا من السرد. فلنقل، من أجل تبسيط ذلك، أن لوتز باسمان كان المتحدث في النهاية، سواء باسمه أو باسم الجميع وكل شيء. هناك العديد من المتحدثين: لوتز باسمان، ماريا شراج، خوليو سترناجن، أنيتا نغريني، إيرينا كوباياشي، ريتا هو، اكوب خادجباكيرو، أنطوان فولودين، ليليث شواك، إنغريد فوجيل. تحتوي هذه القائمة على أخطاء متعمدة وغير مكتملة. وهي تتبع مبدأ ما بعد الغرابة الذي ينص على أن جزء من الظل يقف دائما في لحظة التفسير أو الاعتراف، ليعدّل الاعتراف إلى نقطة تجعله غير صالح لاستعمال الخصم . ليتقصّد المظاهر ، والقائمة ليست سوى وسيلة ساخرة لاخبار الخصم مرة أخرى أنه لن يستفيد شيئا. لأن الخصم  دائما مترصد مشارك، مقنّع ويقظ من بين القراء. يجب أن نستمر في الكلام بطريقة تحرم الخصم من أي ربح. وعلينا أن نفعل ذلك حتى ونحن نشهد أمام محكمة لا نعترف بسلطتها. ونحن نضع إعلانا رسميا، بلغة تبدو وكأنها نفس لغة القضاة، ولكنها لغة يستمع إليها القضاة بفزع أو ملل، لأنهم غير قادرين على فهمها. . . نحن نتلوها  لأنفسنا وللرجال والنساء غير الحاضرين. . . ملاحظاتنا تتنسق دون أي تحايل على العبارة مع فهم القضاة. . . لم يكن هناك شيء غير عادي حول المطر الذي صات ورّن  من عذاب باسمان خلال هذه الفترة؛ كان متوقعا تماما في شهر نيسان / أبريل. في هذه المنطقة، وقد لمستها نهاية ذيل الريح الموسمية، كنا عادة ما لا نربط الربيع بالولادة الجديدة للخضرة  كما هو التقليد في الأدب الغربي ، بل بالجلبة البطيئة الصاخبة  للفيضان، بلل الزذاذ، والأجواء الكريهة الرائحة . في داخل السجن، تتفاوت الأوبئة في الشدة  كل ثانية، وهي تجوس بطريقة لا يمكن التنبؤ بها وتمنع أي تحصين. شعور بالاختناق يعذبنا من الفجر إلى الفجر. ليس من المستغرب اكتشاف أن الأمراض النفسية الجسدية تنبثق خلال هذه المرحلة من طور السجن. مضيفة متاعب التنفس الي مشاق العزلة. كان صعبا للغاية بالنسبة لنا أن نتحدث عبر الزنزانات، بسبب كل الضوضاء التي في الخلفية، من العزف الرتيب والتقاطر التي يتواصل طوال الوقت، مما يخالط محتوى رسائلنا. في تلك السنة، كانت "نحن"، وأكثر من المعتاد، كذبة أدبية، واتفاقا  في السرد  مثلما كان لوتز باسمان  تماما لوحده. الآن هو لوحده. لقد وصل إلى لحظة مغامرتنا المشتركة التي وصفها العديد منا، في الكتب المكتملة أو غير ها، مثل تلك الهزيمة في نهاية المطاف. عندما يكون آخر عضو على قيد الحياة مسجلاً على قائمة الموتى – و في هذه المرة  كان هو  باسمان - تأتأ بمقطعه النهائي، ثم، على هذا الجانب من القصة وكذلك  فيما أبعد منه، الخصم فقط من سيواصل التبختر  نحو الأمام ، غير مهزوم ، دون أن يقهر، ومن بين ضحاياه ، لن يجرؤ أي متحدث الآن على تفسير أو إعادة تفسير أي من أصواتنا، أو أن يحبنا. جلياً برغم  الشخصيات المتشضية التي تُفسد عذابه، سعى باسمان لمجرد التواصل مع الموتى. ولم يعد يتنصت على أنابيب المغسلة أو الباب، قائلا، على سبيل المثال، "انادي الزنزانة  546"، أو على السيفون المقفل  وراء مقعد المرحاض.مناديا الزنزانة 1157 او على قضبان النافذة قائلا " باسمان يستمع ..اجب ارجوك .." هو لايقرع شيئاً الآن . مركزا نظرته علينا ،على صور اولئك الذين سبقوه الى الاختفاء .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة

مشاركة مميزة

  كافكا - حكم تسوراو 1 المسار الصحيح يكون على طول حبل، ليس حبلاً معلقا في الهواء، بل حبلاً ممدداً على الأرض. وهو يشبه سلك ا...